"فأوحى لها": رحيق القصة القصيرة بين المظهر والجوهر

الضمير العائد "إليها" في عنوان مجموعة دعاء أحمد شكري يشير إلى أن القصص تبحر في شأن يتصل بالمرأة. 
البراءة تأتي مجسمة في حضور الطبيعة والكائنات البرئية، وصحو الفجر، وقطرات إيمانية
الأم العراقية الساردة المكلومة تناجي أوجاعها لمقتل فلذة كبدها بقنابل الغادر الأغبر الأميركي

عند لمحة القارئ الأولى للكتاب القصصي "فأوحى لها" للقاصة دعاء أحمد شكري، يلتقي بالعنوان، والذي يمنح عدة دوال، منها معني "الإلهام" في مقولة "لحظة الإضاءة الإبداعية" وإجتناء الرحيق القصصي، وما يمثله معنى الوحي: "ما يلقي في الروح"، وما يستدعي هذا الشأن من توافر حالة من الصفاء والسلام الداخلي لاستقباله بداهة، ثم إحسان تثمير هذا الوحي الثمين، كما أن الضمير العائد "إليها" يشير إلى أن القصص تبحر في شأن يتصل بالمرأة. 
الملمح الآخر ينصرف إلى عدد القصص والذي يصل إلى عدد 53 قصة في عدد 104 صفحات، أي متوسط القصة لا يزيد عن ورقتين، أي أننا أمام القصة القصيرة جدًا، حيث بعض قصص المجموعة لا تتجاوز السطور القليلة، وهذا النوع الحديث من القصة كما أشار النقد الأدبي يستلزم التكثيف، والتشغيل على مستوى اللحظة المشتعلة بالأضداد، أو ما يطلق عليه "لحظة الاشتعال"، أو تجلي المفارقة "التحولات" بأوضح صورها، وتأتي هذه المفارقة في قصص المجموعة بجدل المظهر والجوهر، ففي العبارة بقصة "عجبي" ذات السبعة أسطر: "ليس كل بريق ظاهر بباطنه حقيقة لامعة"، حيث تروي شخصية القصة بضمير "أنا" أنها كانت شغوفة بالرومانسية التي يبديها أحد رواد النادي لزوجته، فغابت هذه الزوجة، فوجدته يصب على أذنيها أعذب الكلمات، وأنه يريدها زوجة ثالثة، حيث زوجته الغائبة كانت الثانية، فشهرت بالحزن وغمزها العقل بمقولة "البريق / الحقيقة". 
وفي قصة "ولد عاق" نجد أن الظاهر أن الزوج يعاني العقم، بينما المفارقة تكمن في جوهره، حيث إنه ليس عقيمًا من تتبع المضمر الإنساني في القصة، حيث تحقق عطاؤه في حنانه ورعايته لزوجته عندما داهمها الكابوس حول ولد عاق ولد لهما، والولد العاق شر من العقم الظاهر. ومفارقة أخرى أن الحلم المزعج بظاهره المؤلم قدم ترياق الرضا النفسي في إهاب أن ما نراه مأساة في حياتنا قد يكون نعمة كبري ونحن لا ندري.
وفي قصة "انبهار" نجد فعل الانبهار يسقط على المظهر بينما يجري سحق جوهر الرجولة الحقة، ويبدو التعارض المقصود في المعنى فالعماليق الثلاثة في القصة يتصفون بقبح الفعال، والسلبية والدناءة، بينما يقبع في مواجهتهم مجموعة أقزام هبطت من سماء النجدة، فيدرك القارئ من هذه المفارقة ان قصدية القصة العكس، فالعمالقة أقزام بفعالهم، والعكس صحيح.

القصص تسعي لنيل جوهرها المصون من لحظات فارقة في الحياة، وتقدم الوصية الفنية بوجوب الفطنة للجوهر الإنساني الكريم والعمق نحوه نلمس به حياة أجمل وأرقى

وهكذا نجد دائمًا هذه المفارقة ويتم صوغها في رحاب إسداء الحكمة أو الخلاصة الختامية، فلحظة التنوير في القصص تتفق مع تلك الخلاصات الحياتية، ففي قصة "ذنب الحب" نجد المعنى الأخلاقي ممثلًا في تعبير "عناق القلوب" لا الأجساد، ومغزى القصة تجسد في عنوانها، ثم في قول القصة: "حقًا أنه حب ارتكب بلا عمد، لكن لا نجعله بأفعالنا ذنبًا"، وتم استعمال التكرار للتأكيد: "ذنب مغفور إن ظل محظورًا بالقلب"، وهذا عذاب نبيل خاصة أن شخصية الحدث القصصي لا تحيا حياة سعيدة مع زوجها الفظ. 
وقصة "خيالات" تنويعًا على فكرة أن الحب ليس مصنوعًا، وخارق لشبكة تغطية الإرادة، وهي حوارية خاطفة بين أستاذ عقلاني يظهر غير ما يبطن ويتعذب باوجاعه وطالبه تناقشه، وأتت مفردات القصة "عفوية / عمق / شفاف / همس" لتظهر جوهر كريم ينفي مظهرًا خادعًا.
وثنائية "الأمومة / الطفولة" بما تجسده من عطايا الرحيق والبراءة، نجدها ماثلة في أكثر من قصة ففي قصة الافتتاح "عافاك الله" نجد حضور براءة الطفلة ممثلة في حديثها العذب البرئ للأب الخائن: "وارب القدر الباب فتخلل منه نور ضعيف، فأعطى الطفلة إشارة بالمرور"، وقبلتها "المسيلة لتأنيب ضمير" الأب فيرجع عن غيه، ليكون السر "يجعل سره في أبرأ خلقه"، ونجد فكرة المظهر والجوهر مجسدة في تعبير "غلاف الحياة" الظاهر، بينما تطوي البيوت على أسرار عاصفة. 
وتمثل قصة "انفجار" فكرة الغلاف الظاهري للأسرة وما يعتريها من تصحر، حيث تقدم القصة صورة ساخرة عن ترهل المحبة ممثلًا في ترهل الجسد، بعد إهمال تخصيب المحبة بين الزوجين بالرائحة والمظهر والسلوك الحسن: "فنظر إليها منزعجًا ببطنها مترامي الأطراف منتفخًا وكأنه ابتلع عشقهما الأكبر"، وأتي التداعي بحيث إن هذه الصورة استدعت توليدًا منها وتركيبًا عليها: "وبغيظ أراد أن يضغط عليه، لعله يفجر معه طاقتها الرومانسية وجمالها اللذين بددتهما المسئولية وخيم عليها الخرس الزوجي". 
وفي قصة "علي" نجد حديت الأم العراقية الساردة المكلومة تناجي أوجاعها لمقتل فلذة كبدها بقنابل الغادر الأغبر الأميركي، وكانت النقاط من وجهة نظر ذائقتي يمثل بلاغة المبني، حيث الموت يمثل سكوتًا.  

Literary criticism
القصص تتجه للأمثولة وتجسيد المعني المجرد

وتأتي البراءة مجسمة في حضور الطبيعة والكائنات البرئية، وصحو الفجر، وقطرات إيمانية، وتقدم الجوهر الرائق في مجابهة المظهر الزائف، ففي قصة "دهشة" رسمت العاصفير فوق رأس أنثي كلمة "احذري" يكاد يفتك بها ذئب متحرش، ويتقدم العقل ليقود العصفور بعيدًا عن الشرك.  
وتأتي فكرة المشاعر المخبوئة والتي تطل برأسها في الحلم، في جانب من قصص المجموعة، وتمثل مفارقة "الحلم الجميل / اليقظة علي الواقع الكابوس"، وفي قصة "مشاعر مكبوتة" نجد اليقظة من حلم جميل على شراسة الواقع، حيث مثل الحد الأول: تجسيد ميثاق المحبة الرقيق: "بصمة إحساسنا ميثاق أقوى من شهادة الحبر علي ورق زواجنا"، ويأتي التعظيم البلاغي بمزج الإيماني بالرومانسي عن لحظة الفجر الطاهرة: "لحظة ساحرة زادت جمالًا بتغريد أصوات ملائكية تؤذن للفجر دوّى صداها وملأ نسمات الأجواء"، ثم الحد الثاني وهو شر من الكابوس، حيث الكابوس يعقبه التخلص باليقظة، أما هنا فحلم جميل ويقظة مريرة: "سلب الصحو رداء أحلامي الوردي وتوقف نبضها وليت نبضي توقف".
وقد تتجه القصص للأمثولة وتجسيد المعني المجرد، ففي قصة "الخندق" نجد ضرورة إعادة القراءة بعد الوصول لخاتمة القصة، حيث آخر كلمة في القصة تشكل مفتاحها، وتقيم القصة حوارًا مريرًا بين قلب صادق وقلوب أخرى معبّأة بروائح مكتومة، وتأتي مفارقة المظهر والجوهر بتعبير تمزيق الأقنعة لاكتشاف المخبوء الكاذب خلف أستارها. وفي قصة "محاكمة" نجد الرمزية في جدل "الروح / الجسد" فنجد تلك المحاكمة المعقودة لشوق المحروم: "وادفأت بأنفاسه ثلج حرماني الذي فتت أضلعي". 
وهكذا نجد قصصًا يتم التقاط لحظاتها من رحاب المواصلات العامة والحياة الأسرية والأمر العادي الذي يحياه الناس، والتعاطف مع أوجاعهم النابتة من مشكلات اجتماعية، فالشاب بطل قصة "قبر الخجل" يلح على عجوز أن تجلس مكانه فلما شكرته، قال لها إنه تربي أن يقف لتجلس الأمهات فجرحتها كلماته حيث إنها لم تتزوج. 
والقصص تسعي لنيل جوهرها المصون من لحظات فارقة في الحياة، وتقدم الوصية الفنية بوجوب الفطنة للجوهر الإنساني الكريم والعمق نحوه نلمس به حياة أجمل وأرقى.