فرانسواز ساغان تُطاردُ شخصياتها الورقية

ساغان وقفت ضد دعاة الرواية الجديدة الذين رمت محاولاتهم إلى تقويضِ أعراف ثابتة في الكتابة والخروج من الأطر التقليدية.
الكاتبة تعودُ إلى لحظة مفصلية في حياتها عندما انطلقت نحو النجومية في عالم الأدب
فرانسواز تكشفُ وضع بطليها العائدين من سكاندينافيا

وقفت فرانسواز ساغان ضد دعاة الرواية الجديدة الذين رمت محاولاتهم إلى تقويضِ أعراف ثابتة في الكتابة والخروج من الأطر التقليدية إذ تشيدُ صاحبة "في شهر في سنة" برواد الرواية الكلاسكية وتستخفُ بمنجز رواد الحديثة لأنهم يلعبون برصاصات فارغة تاركين للقراء رسم شخصياتهم الشاحبة، مؤدى هذا الرأي هو رفض تشظي الحبكة وهلامية الشخصيات، والمُستغربُ أن تدس ساغان هذه الآراء النقدية ضمن عملها المعنون بـ "جروح الروح" الصادر من التنوير وتَشيرُ إلى ما أثارته أعمالها الروائية والمسرحية لدى الجمهور عدا ذلك تريدُ ساغان أن تضعَ المتلقي في تفاصيل محترفها الروائي والحلول التي تفكرُ فيها لأزمة شخصياتها، هذا إضافة إلى بوحها لما عاشتهُ من بعض ظروف حالت دون إكمال مشروع الرواية خلال وقت مُحدد ومن ثُمّ تستعيدُ جانباً من ذكرياتها المشبوبة بالحزن والطيش لافتةً إلى ما تخللته مسيرة حياتها من المزدوجات وبعض نقاط التَعَجُب والشغف.
ولا تستترُ الكاتبةُ وراء أسماء مُستعارة كما لا تعبرُ عن رؤيتها على لسان شخصيات الرواية بل تذكرُ ما ارتبط باسم فرانسواز ساغان لدى الجمهور، ولا تنكرُ فوائد الصورة التي كونها الناس عن شخصيتها فهي قضت ما يناهز ثماني عشرة سنة متخفية في سيارات الفيراري وزجاجات الويسكي والإشاعات والزيجات والطلاق على حد قولها.

فرانسواز ساغان تلجأُ إلى الإيحاء في رصدها للعلاقات الحسية بدلاً من المُباشرة

وتعودُ فرانسواز ساغان إلى لحظة مفصلية في حياتها عندما انطلقت نحو النجومية في عالم الأدب إثر صدرو باكورتها الروائية في 1954 حيث وجدت نفسها أمام خيارين إما أن تصبحَ فتاة فضحائية أو كاتبة برجوازية غير أنها تسلك طريقاً عنوانه المرح والتهتك والكتابة والمُغامرة. وهذا التجاور بين الذكريات ومشروع كتابة الرواية وتمرير آراء الجمهور بشأنِ ما يقدمه المبدع في علبة هذا النص يمكن وصفه باللارواية.
لعبة الضمائر
من الواضح أن فرانسواز ساغان تخرجُ من إطار الراوي المُصطنع مُعلنةً عن هويتها لتسردُ الأحداث وتسبتطنُ سرائر شخصياتها إذ تستهلُّ المقطعَ الأول من الرواية بطرح افتراض حول الشكل الذي تتخذهُ شخصية سباستيان وأخته أليونور عندما يتمُ إستعادتهما في إطار عمل روائي وتوميءُ ساغان إلى إنتماء الشخصيتين لزمن قد مضي حيث ألفت مسرحية تدور أحداثها حول حياة شقيقين (أخ وأخته) في سنة 1960 وتقومُ بتوظيف الإثنين من جديد في روايتها الصادرة سنة 1971 ملمحةً إلى ما شهدته مدينة باريس بين التاريخين من التحولات والتطورات على المستوى السياسي والمُجتمعي مُتسائلة عن سبب لما تراه من الرداءة على ملامح المدينة، هل هذه الحالة هي نتيجة لأحداث سنة 1968 أو أن التقدم في العمر عامل لتغير الإحساس بأجواء باريس طبعاً ترفض فرانسواز ساغان الإحتمال الأخير لأنها لا تزال في منتصف عقدها الثالث. 
أكثر من ذلك فإنَّ فرانسواز تكشفُ وضع بطليها العائدين من سكاندينافيا فكان الأخُ في ضيافة أحد أزواج ألينور هناك. ومن ثُمَ يجدُ  في باريس شقة فارغة لصديقه روبير باسي حيثُ يسكنها مع أخته، وما يشغل المؤلفة هنا هو وجود شخص يعيل سباستيان وآليونور، ولا ترغب بأن تدفع بشخصيتين سويديتين إلى عالم البورصة أو محلات الألبسة الجاهزة. كما تصفُ بطلتها على المستوى الخارجي ومفاتنها الأنثوية ولكن المشكلة تكمن في عدم إلتفات الرجال إلى النساء جراء إنتشار الشذوذ. غير أن هذه الظاهرة لا تمنع شخصيتين من الإعجاب بمناخ باريس. واللافت في أسلوب فرانسواز ساغان إضافة إلى حضورها المُعلن في متن النص هو تنوع الضمائر، تارة يكون ضمير الشخص الأول هو أداة للسرد، وينوبُ تارة أخرى ضمير الغائب. وفي الحالة الأخيرة يبدو الراوي محايداً في العرض وتوجيه الشخصيات. 

The French novel
تعليقات بعض القراء 

بيئة جديدة
المقصود بالبيئة هنا هو النص الروائي الذي يأتي لاحقاً للعمل المسرحي الذي نشرته ساغان إذ تنتقلُ شخصيات المسرحية إلى بيئة نصية جديدة. وبذلك يوجدُ تناص مواز بين العملين. وتوردُ ساغان عنوان بعض رواياتها في سياق "جروح الروح" مُستدعية تعليقات بعض القراء عن إندماجهم مع شخصيات رواية "هل تحبين براهمز" معبرةً عن رأيها بأنَّ ليس ثمة من تعجبه حياة سويديين لذلك لا يتكرر بالنسبة إليهما ما وقع لكائناتها الورقية السابقة.
ما تفتيءُ ساغان تفاجيءُ المتلقي بتدخلاتها المباشرة عن المدة التي استغرقها الانقطاع من مُتابعة كتابة الرواية وتوهمُك باستقلالية شخصيتين بسؤال عن مصيرهما عندما توقفت عن الكتابة. 
عطفاً على كل ماذكر آنفاً تمرر ساغان آراءها حول خيار الكتابة والموضوعات الوجودية في مضمون هذا النص كما تتخذُ بعض مقاطع سردية صيغة إستفهامية موجهة إلى المُتلقي دون أن تشعرَ بأنها مُقتحمة أو نابية في فضاء الرواية. يضمُ هذا النص المُلتبس شخصيات محددة تعتمدُ بنية الحدث على العلاقات القائمة بينها إذ يمرُ سباستيان بتجربة عاطفية مع نور جدلمان المسنة بالمقابل لنغمست أليونور في علاقة حميمية مع ماريو الجنائيني، ولا تستوعبُ نورا عندما تستمع هذا الخبر من سباستيان، ولا تتوقفُ مغامرةُ الشقيقة عند هذا الحد بل تجذبُ إهتمام برونو رافيه ويصبح عشيقها الأمر الذي يؤلم روبير باسي لأنَّ الأخير بدوره تجمعه علاقة مثلية بذلك الممثل.
يُشار إلى أنَّ فرانسواز ساغان تلجأُ إلى الإيحاء في رصدها للعلاقات الحسية بدلاً من المُباشرة. وكان ردُ فعل روبير على هجر برونو رافيه هو قرار الإنتحار الذي يضعُ الشخصيات الثلاث الأخرى إزاء سؤالٍ من المسؤول عن هذه النهاية البائسة وكأنَّ الكاتبة تستمعُ بهذا الموقف الذي يصفه بالجهنمي لأبطالها المتأزمين زد على هذا يفهمُ مما تقوله ساغان أنها كانت شاهدةً على حالات الإنتحار بعضها جميل ونظيف وبعضها وضيع وفاشل. ومن ثمَّ تلتفتُ إلى ما تحظى به الطقوس الجنائزية من الإهتمام لدى الفرنسيين، ولا تدعي الكاتبة أنها تباغت القاريء من الجديد بحوارها مع الشخصيات كأن تلك الكائنات المُتخيلة ليست من صنيعها، على الرغم من ميل واضح للتجريب في هذا النص فلا يخسرُ بذلك عنصر التشويق بل يكونُ الشكل وطريقة الكتابة أحد عناصره الأساسية طبعاً تتصاعدُ نسبة التشويق لدى قاريء مُتابع لعالم فرانسواز ساغان القائم على حب المُغامرة عدا متابعة وقائع الرواية فعليه إقتناص الإشارات المحيلة إلى روافد تكوينها المعرفي.