فرصة لبنان الأخيرة

درج لبنان على العثور على حل ترضية قد يجبر السياسيون على القبول به بضغوط إقليمية ودولية. هذه المرة عليهم ان يركضوا نحو تسوية تعيد البلاد عن طريق اللاعودة.

ليست سابقة ان يمر لبنان بنوع عالي المستوى من الازمات، فتاريخه يعج بمختلف الصور من النزعات الصراعية المتعددة الجوانب والخلفيات، التي كانت غالبا ما تنتهي بتسويات لا غالب فيها ولا مغلوب، ذلك ضمن اطر تسويات إقليمية ذات محتوى دولي. اما اليوم فيختلف الامر لما يتداخل من عناصر ومؤثرات ذاتية متصلة بخلفيات اجتماعية اقتصادية وسياسية، وموضوعية متصلة بأبعاد خارجية متدخلة بالواقع اللبناني الذي يعج بمفردات النزعات والصراعات.

وما يزيد من هذا الواقع المرير مظاهر تحلل مؤسسات الدولة، حيث فراغ سدة الرئاسة الذي امتد الى مفاصل تنفيذية أخرى، علاوة على انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، معطوف على انقسام عامودي مجتمعي يلبس اليوم لبوسا طائفيا ومذهبيا يعيده الى صور الحرب الاهلية منتصف سبعينيات القرن الماضي. باختصار انه وضع اقرب الى الانهيار الشامل الذي لا حلول بعده.

ويبدو ان المهتمين بوضع لبنان ينطلقون من مبدأ ملأ الفراغ الرئاسي لإعادة تكوين السلطة ومؤسساتها. ومن هذه الوجهة انطلقت مبادرات عدة ابرزها لقاءات باريس التي ضمّت أطرافا لها وزنها بين الفئات اللبنانية. وبصرف النظر عن مدى تجاوب هذه الأطراف مع الطروحات ذات الصلة بالشأن الرئاسي، فلا مدخل فعلي وعملي سواه حاليا، وبالتالي يعتبر مدخلا قابلا للحياة والبناء عليه لاحقا. وما يعزز من فرص هذه البيئة من الطروحات ما يواكبها من تقارب إقليمي كان لوقت قريب غير موجود بل يعتبر من العوامل غير المناسبة، فيما اليوم يعلق عليها آمالا كبيرة لاقناع الأطراف اللبنانيين المضي في حياكة تفاهمات تؤدي الى إعادة نظر كبرى بالاتفاق على اسم رئيس للجمهورية يتم التوافق عليه داخليا بدعم إقليمي ودولي. والاضافة اليوم تكمن في محاولة الاتفاق المسبق أيضا على ملفات داخلية حيوية ومن سيكلف فيها بخاصة بمستوى رئاسة الحكومة، الذي سيكون امامه وامام حكومته قضايا استراتيجية لها علاقة بالكيان اللبناني ووسائل استمراره.

فلبنان اليوم لا يملك ترف الوقت، بل تفاصيل متطلباته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هي في سباق مع الزمن قبل الانهيار الشامل الذي لا عودة عن تداعياته القاتلة، وبالتالي لا خيار امام القيادات اللبنانية الا التفكير بتمعن بالفرصة العربية الدولية المتاحة، لاسيما وان الجميع يدرك بوضوح ان عدم التقاط هذه الفرصة في هذه الظروف بالتحديد سيكون امرا قاتلا وغير قابل للتعويم مجددا الا بأثمان ستكون قاسية جدا على جميع الأطراف اللبنانية.

ثمة ظروف إقليمية عربية ودولية مناسبة لإحياء بعض المبادرات ومن بينها اقتران خيار رئاسة الجمهورية مع خيار رئاسة الحكومة التي من الممكن ان تكون مدخلا مقبولا لمشروع مستدام، اقله الاتفاق على ملفات كانت دائما محل نزاع كالاستراتيجية الدفاعية وملفات الإصلاح المالي والاقتصادي وإعادة تكوين السلطة التي بدت في بعض الفترات وكأنها مدخل لإعادة التوافق على عقد سياسي اجتماعي جديد رغم صعوبة التوصل اليه في هذه الظروف الهلامية.

لقد مرَّ لبنان سابقا بمحطات احتراب داخلي بأبعاد خارجية متعددة الخلفيات والأوجه، وكانت الأطراف اللبنانية عادة ما تُجمع بوسائل ضغط متنوعة وتجبر في غالب الأحيان على قبول حلول لم تكن وفقا لرغباتها، فيما اليوم يتطلب الامر مزيدا من الجهد من الأطراف الخارجية الفاعلة، والمزيد من مرونة الأطراف اللبنانية لتقبل التفاهمات الممكن التوصل اليها.

ثمة بعض الفرص التي يمكن ان تكون متاحة في ظرف معين، لكن الظرف يصعب تكراره وبقاءه صالحا للعمل، ومن هذا المنطلق ينبغي على اللبنانيين اظهار المزيد من الوعي لما وصلت اليه ظروف البلد ومكوناته الاجتماعية التي تقف اليوم على مفترق طرق اقله المس بالكيان ومكوناته، فهل يدرك اللبنانيون أهمية الفرصة الأخيرة المتاحة؟