فريدريك لونوار: الرغبة جوهر الإنسان ومحرك الحياة

الفيلسوف الفرنسي يسعى في كتابه 'فلسفة الرغبة' إلى إعادة النظر في التساؤلات المتعلقة برغباتنا انطلاقا مما طرحته أفكار الفلاسفة والحكماء.

"ما قيمة الحياة بدون رغبات؟" إن تنوعها وكثافتها هي التي تدفعنا إلى العمل وتجعلنا نشعر بالحياة الكاملة، إن الرغبة في الحياة لا تعني مجرد البقاء على قيد الحياة، إنها السماح لأنفسنا بالانجراف وراء الدافع الحيوي الذي يقودنا إلى الإبداع، إلى أن نحب ونتفوق. إنها تنمية قوة الوقود التي هي محرك وجودنا. ومع ذلك، نشعر يوميا بالعديد من القيود - "أنا غير قادر"، "الأمر محفوف بالمخاطر"، "هذا ليس مناسبًا لك" - مما يعيقنا، غالبا ما نكون أيضا أسرى لدوافع دماغنا الأساسي، والجسم المخطط، والدعاية الاستهلاكية التي تدفعنا دائمًا إلى الحصول على المزيد. كيف يمكننا تنمية قوة الرغبة دون الوقوع في فخ عدم الرضا الدائم أو التقليد الاجتماعي؟، كيف يمكننا تطوير قوتنا الحيوية دون فرض رقابة على أنفسنا؟، كيف يمكننا أن نتعلم توجيه رغباتنا نحو الأشياء أو الأنشطة أو الأشخاص الذين يجعلوننا ننمو ويجلبون لنا السعادة؟.

هذه الرؤية هي ما يسعى الفيلسوف الفرنسي فريدريك لونوار إلى قراءتها وإعادة النظر في تساؤلاتها من خلال ما طرحته أفكار الفلاسفة والحكماء انطلاقا من أفلاطون إلى رينيه جيرار مرورا ببوذا، وأرسطو، وأبيقور، وسبينوزا، ونيتشه، ويونغ، وبرجسون. وذلك في كتابه الصادر أخيرا عن دار الساقي بترجمة الشاعر والكاتب اسكندر حبش.

بداية يوضح لونوار أن كلمة "رغبة" تأتي من الفعل اللاتيني "desiderare" المكون من sidus، sideris، والذي يشير إلى النجم أو كوكبة النجوم. هناك تفسيران متعارضان جذريا مع هذا الأصل (أصل الكلمة) يمكننا تفسير الرغبة (desiderare) على أنها "توقف عن التفكير في النجم"، والتي تحيل إلى فكرة الخسارة، والافتقار، و"الارتباك". يمكن للبحار الذي لم يعد ينظر إلى النجوم أن يتوه في البحر، وللإنسان الذي لم يعد يفكر في الأشياء السماوية أن يضيع في جاذبية الأشياء الأرضية. وعلى العكس من ذلك، يمكننا أن نفهم (desiderare) على أنها ما يحررنا من الشعور بالذهول (siderare)، لأن الرومان يفهمون تقليديا "مذهولا" (sideratio) على أنه حقيقة خضوعهم لعمل النجوم المشؤوم. لقد احتفظنا بهذا المعنى البعيد عندما نقول إننا "مذهولون" (sidérés) بعد الصدمة أو المحنة: نحن ساكنون، من دون ردود أفعال، محرومون من حرية التصرف. ولكن ما سوف يعيدنا إلى الحركة هو (de - sidere) الرغبة. وهكذا تفهم الرغبة على أنها محرك الفعل، باعتبارها القوة الحيوية التي تحررنا من الدهشة، مهما كان السبب.

ويرى أنه من المثير للدهشة أننا نجد هذا المعنى المزدوج في جميع أنحاء التقاليد الفلسفية الغربية. في الواقع، ينظر من ناحية إلى الرغبة أنها نقص، وسيتم التأكيد بشكل أساسي على طابعها السلبي. ومن جهة أخرى، ينظر إليها على أنها قوة والدافع الرئيسي لوجودنا.

لقد أدرك معظم الفلاسفة القدامى الرغبة من زاوية الافتقار واعتبروها مشكلة أكثر من كونها سؤالا: البحث عن إشباع، بمجرد إتخامه، يولد من جديد وعلى الفور بالشكل عينه أو بشكل غرض آخر، وبالتالي يحكم علينا بأن نكون غير راضين على الدوام. هو أفلاطون أشهر تلاميذ سقراط، الذي كان أفضل من وضع نظريات هذا البعد النهم من الرغبة البشرية في هذا الشكل من النقص "ما لا نملكه، ما ليس نحن عليه، هو ما نفتقر إليه: هذه هي أهداف الرغبة والحب"، ينسب أرسطو هذا الاستيعاب للرغبة إلى الافتقار ويرى فيها، قبل كل شيء، بأنها القوة الدافعة الفريدة لدينا "ليس هناك سوى مبدأ محرك واحد: القوة الراغبة". في القرن السابع عشر، تبنى سبينوزا هذه الفكرة ووضعها في قلب فلسفته الأخلاقية بأكملها: الرغبة هي القوة الحيوية التي تحشد كل طاقاتنا، وبما أنها توجه جيدا بالعقل، لذا يمكنها وحدها أن تقودنا إلى الفرح والسعادة الفائقة (النعيم).

ويضيف لونوار الرغبة ـ النقص التي تؤدي إلى عدم الرضا والتعاسة، والتي يجب الحد منها أو القضاء عليها..، أو الرغبة ـ القوة التي تؤدي إلى الامتلاء والسعادة والتي يجب تنميتها: من على حق؟، في الواقع إذا لاحظ المرء نفسه بعناية، وإذا لاحظ المرء الطبيعة البشرية، فإن النظريتين تبدوان ذات صلة ولا تستبعد كل منهما الأخرى. يمكننا تجربة الرغبة ـ النقص والرغبة ـ القوة في حياتنا، عندما نقع في شرك عدم الرضا الدائم، والمقارنة الاجتماعية، والحسد، والشهوة، والشغف في الحب، نتفق مع أفلاطون. لكن عندما تحملنا فرحة الإبداع والنمو والتقدم والمحبة ونشر مواهبنا وإشباع أنفسنا في نشاطنا والمعرفة، فإننا نتفق مع سبينوزا. والأشياء أكثر تعقيدا، لأن نقص الرغبة يمكن أيضا، كما عند أفلاطون، أن يكون محركا للسعي الروحي الذي من المحتمل أن يؤدي إلى التأمل في الجمال الإلهي، ويمكن أن تقودنا الرغبة إلى الإساءة وإلى شكل من أشكال الغطرسة الذي استنكره الإغريق.

فريدريك لونوار يخلص إلى أنه من الضروري أكثر من أي وقت مضى نشر الوعي برغباتنا

يدرس لونوار الموقف الأفلاطوني للرغبة ـ النقص من خلال أبعاد مختلفة: فلسفية، ولكن أيضا بيولوجية، وأنثروبولوجية، واجتماعية، حيث نرى على وجه الخصوص كيف يدفعنا دماغنا الأوّلي، المخطط، إلى أن نرغب من دون حدود وكيف تستحوذ الإعلانات والشبكات الاجتماعية على هذه الغزيرة لدفعنا إلى الرغبة والاستهلاك أكثر من أي وقت مضى.

كما يلاحظ مع رينيه جيرارد قوة الرغبة المقلدة التي تقودنا إلى الرغبة في ما يرغب فيه الآخرون ويحلل آليات الطمع والحسد التي تؤدي إلى سوء الحظ والعنف. ويحلل مرة أخرى، مع فرويد والعلوم البيولوجية، مدى تعقيد الرغبة الجنسية. يتناول الطريقة التي سعت عبرها التيارات الفلسفية والدينية المختلفة للإنسانية إلى تنظيم الرغبة حتى لا تقع في أفخاخها وأوهامها: بمعيار خارجي (قانون ديني)، ومن خلال العقل والاعتدال (أرسطو وأبيقور) عن طريق الإرادة أو الانفصال (الرواقية والبوذية). وينظر أيضا في الطرق المعاصرة لتنظيم الرغبة المستوحاة من هذه الطرق القديمة: الامتناع عن ممارسة الجنس، والصوم، والمشاركة، والبحث عن نمط حياة أكثر رصانة، وما إلى ذلك. وفي الأخير يدرس لونوار مفهوم السبينوزية للرغبة كقوة والطريقة التي يمكننا بها إعادة توجيه رغباتنا بدءا من التأثيرات الإيجابية، والتي تحشد كياننا لقيادتنا نحو أفراح عميقة ودائمة. وكذا نرى بصحبة نيتشه أو يونغ أو برغسون، كيفية زيادة قوتنا الراغبة وتغذية زخمنا الحيوي، لاسيما من خلال عملية الإبداع. كما ينظر في الأبعاد الثلاثة للحب والرغبة – إيروس، فيليا، أغابي، لنتعرف على نقص الحب في العاطفة الغرامية، لتحقيق الحب بشكل كامل، بطريقة حقيقية ومبهجة.

ويشير لونوار إلى أن المسار الذي سلكه في الكتاب سمح له برؤية أن هناك مفتاحين كبيرين لفهم رغبة الإنسان. إن الرغبة كافتقار، التي أبرزها أفلاطون، تبنتها معظم مدارس الحكمة في العالم القديم وأكدتها علوم الأعصاب، والرغبة كقوة، رسمها أرسطو قبل أن يشرحها سبينوزا، ثم نيتشه، وبرغسون أو يونغ. من وجهة نظري، كلاهما على حق أفلاطون وسبينوزا، إنهما يشيران بشكل صحيح إلى بعدين للرغبة البشرية التي نختبرها جميعا: نقص الرغبة الذي يجلب لنا المتعة ويمكن أن يقودنا إلى الرغبة في تحسين أنفسنا، ولكنه قد يقودنا أيضا إلى الشهوة والحسد وعدم الرضا الدائم، وقوة الرغبة التي ترفعنا إلى الفرح الكامل، ولكنها يمكن أن تقودنا أيضا إلى شكل من أشكال الهيمنة أو الإفراط (غطرسة الإغريق)، إذا لم تنظم بواسطة العقل. غالبا ما يتأرجح وجودنا بين الاثنتين، ولا شك في أننا إذا كنا نطمح إلى الهدوء والفرح، فمن الضروري أن نتعلم كيف نميز رغباتنا ونوجهها توجيها صحيحا. لكن الطريقة التي نوجهها بها لا تؤثر فقط على حياتنا الشخصية، بل تؤثر أيضا على من حولنا، والمجتمع الذي نعيش فيه، بل تؤثر اليوم على الكوكب بأسره.

ويؤكد أن من خصائص الرغبة البشرية، في الواقع، أنها لا نهائية، إذا وضع رغبته أساسا في مجال الامتلاك، فسيظل الإنسان غير راض إلى الأبد وسيبقى أسيرا لنبضات دماغه الأساسي الذي لا يعرف حدودا. إن عدم قدرة الدماغ البشري على تهدئة نفسه بشكل طبيعي في هذا البحث عن المتعة يشجعه على الرغبة دائما في المزيد. إنه محرك مجتمعاتنا الاستهلاكية وسبب الأزمة البيئية، كما يقر سيباستيان بوهلر "الاستمرار في تعزيز نظام اقتصادي يشجع معززاتنا الأولية الكبيرة هو بلا شك أسوأ الأشياء التي يجب القيام بها، وللأسف هذا ما كنا نفعله لأكثر من قرن لغاية الآن، والثمن الذي سوف ندفعه هو كوكبنا". وعلى الجهة المقابلة، إذا تحركنا أكثر من خلال زيادة كياننا، فلن نشعر بالإحباط أو الاستياء أبدا: المعرفة، والحب، والتأمل في الجمال، والتقدم الداخلي يملؤنا، من دون أن يعطينا هذا الشعور بالإحباط، وهو نموذج للرغبات الموجهة نحو الامتلاك.

ويقول لونوار نحن نرغب دائما في الاستمرار في المعرفة، والحب، والتقدم، لكن هذا السعي يقودنا من فرح إلى فرح وليس له عواقب سلبية على الآخرين أو على كوكب الأرض. لا تفهموني خطأ، مع ذلك: ليس لدي ازدراء للبضائع المادية وأنا مقتنع بأنه يجب إيجاد توازن بين المادة والروح، بين التملك والوجود. عندما تعيش في حالة من انعدام الأمن المالي العميق، من الصعب تنمية حياتك الداخلية بهدوء. لكن علينا أن ندرك أن عالمنا المعاصر يفضل إلى حد كبير التملك على الوجود، والمنافسة على التعاون، والاعتراف الاجتماعي على احترام الذات، وقد تبين أن عواقب هذه الأيديولوجية ثقيلة جدا على الأفراد ومدمرة لكوكب الأرض. يطمح كل إنسان إلى أن يكون بالقدر نفسه الذي يطمح فيه إلى الامتلاك، وعندما يتنازل عن احتياجاته من الروح من أجل المنفعة الوحيدة العائدة للجسد، عندما يحيط بحثه عن اللانهاية في أشياء محدودة، عندما يتخلى عن حياته الداخلية ليقلق فقط حول مكانه في العالم الخارجي، نجده يشوه نفسه ويصبح مفترس للآخرين. ومع ذلك، فإن الثقافة السائدة في عصرنا تدفعنا في هذا الاتجاه.

ويلفت إلى أن إعادة التوازن بين التملك والوجود، بين حاجات الجسد واحتياجات الروح، هي بالتالي ضرورية أكثر من أي وقت مضى، ما يبعث على التشجيع في شهادات هؤلاء الذين قرروا تغيير حياتهم، وفي أولئك المذكورين أعلاه، من هؤلاء الشباب الذين لم يعودوا يرغبون في العمل وفقا للنموذج الحالي، هو هذا الإصرار على الرغبة في إعادة توجيه رغباتهم من التملك إلى أن يكونوا. على العكس من الأيديولوجية المهيمنة، في الواقع، يشعر المزيد والمزيد من الناس، وخاصة الشباب، بالحاجة الماسة إلى التحول إلى الخيرات الروحية، والحب، والمعرفة، بدلا من السلع المادية، بدلا من الراحة والهيبة الاجتماعية التي يمنحها الوضع الجيد، يفضلون حياة رصينة وسعيدة تلبي رغباتهم العميقة لتحقيق الذات والعدالة الجتماعية واحترام الكوكب، فبدلا من الهيمنة والمنافسة، يفضلون التعاون، بدلا من النجاح في الحياة، يفضلون النجاح في حياتهم... والعيش في وئام مع البشر الآخرين وجميع الأنواع الحية على كوكبنا الجميل، حتى لو كانوا لا يزالون يشكلون أقلية، إلا أنهم رواد المهام الجديدة وأساليب الحياة الجديدة، التي تؤدي إلى إعادة التوازن الصحي بين التملك والوجود، بين الخارج والداخل، بين غزو العالم وفتح الذات، بين الرغبة ـ النقص والرغبة ـ القوة.

ويخلص لونوار إلى أن الرغبة جوهر الإنسان ومحرك حياتنا: يعتمد رضانا عن الوجود على الطريقة التي ننمي بها رغباتنا ونوجهه، لكن بقاء مجتمعاتنا يعتمد أيضا على هذا التوجه الصحيح لرغباتنا، ولا يمكن أن يتم ذلك من دون استقطابها، في نهاية المطاف، من خلال احترام الأحياء والاهتمام بالآخرين والبحث عن الحقيقة. لذلك، من الضروري أكثر من أي وقت مضى نشر الوعي برغباتنا: وهذا بلا شك أكبر تحد في عصرنا.