فلسفة الصورة عند ابن عربي

في كتابه "الصورة بين الخفاء والتجلي" أحمد كازي يرى أن الشيخ الأكبر ابن عربي انتصر للمعنى اللاجسماني للصورة.
فك كنز يخفي حقيقة مكنزة، وهي الصورة الكونية ذاتها في تشكيلها المدور والكامل
الصورة .. أهي باحثة عن المعنى، أم عن الكيان، أم أنها جامعة بينهما؟
انتصار لما يسمّيه الشيخ الأكبر "طور ما فوق العقل"

يواصل متن الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي بشساعته وآفاقه المتسعة معرفيا ووجوديا، إلهامه للمبدعين وعطاءه لأهل العلم والعرفان والباحثين والمفكرين، فهذا المتن العظيم تناول الظاهر والباطن، والوجود الإنساني في ممارساته الحية والحياتية، بدءاً من الجسد اليومي والإغوائي إلى الجسد الشفّاف والثوابي، وانطلاقاً من كيفية الوضوء والصلاة إلى كيفية الجمع بين الفناء والمشاهدة. 
وقد علل الباحث والأكاديمي المغربي د. أحمد كازي اختيار مبحثَ الصورة عند بن عربي لكتابه "الصورة بين الخفاء والتجلي عند محي الدين بن عربي" بأنه راجع إلى وضعية هذا المتن ذاته، الذي يقدم قضاياه وموضوعاته بطريقة التضاد والتنافر بين الأشياء معرفياً ووجودياً وكونياً، لكن لا من أجل إثباتها؛ بل لإلغائها واستبدال حقيقة جامعة مانعة بالتباسها؛ بحثاً عن الأكمل والأعظم والأكبر، والمجسّد في الوجود الإنساني الأقوى والأقدر على الفصل والوصل ما بين التعالي والمحايثة، وبين الخفاء والتجلي، والغياب والحضور، والغيب والشهادة؛ لأن المبحوث عنه ممتدّ ما بين هذه الوضعيات والمفارقات، وما به يتحول المخفي إلى متجلّ. وهذا الأخير هو أداة لإخفاء العمق بل خزانته. 
وقال د. كازي "انطلاقاً من تعدّد وضعيات الكتابة وتشكيلاتها ومناسباتها المتسعة المدارج والمسالك عند الشيخ الأكبر، عملنا على مصاحبته باعتباره صاحب حكمة فلسفية أو تصوف فلسفي يتّجه نحو إبداع رؤية وأفق لبناء الوجود الإنساني في علاقته بالعالم والله؛ وباعتباره الصورة المطلوبة، أو فك كنز يخفي حقيقة مكنزة، وهي الصورة الكونية ذاتها في تشكيلها المدور والكامل، وما يظهر منها هو الوجه الأسفل، لكنّ استكمالها هو بالتصاقها بالوجه الأعلى. ولهذا ترتبط إشكالية الخفاء والتجلي بوضعيات التعالي والمحايثة، لا في تنافرهما؛ بل في تداخلهما واجتماعهما. 
وبهذا الأخير ـ الاجتماع ـ يتحدّد الخلق على الصورة أو وجود صورة مقربة للحقيقة عقلياً وحسياً، وهي في الوقت ذاته ليست عقلية ولا حسية. لذا، يبعدنا تصنيف فكر ابن عربي ضمن أفق الفلسفة الصوفية عن التعامل معه لا كتجربة حياتية عملية فحسب؛ بل كأفق نظري مؤسس على خطاب وموجّهٍ بحمولة نظرية منفتحة على أكثر من قول: إنه فتح لآفاق جديدة في التفكير يلتقي فيها العقل واللاعقل ـ الخيال ـ ويتضاربان في الوقت ذاته انتصاراً لما يسمّيه الشيخ الأكبر "طور ما فوق العقل". ينتج عن هذا أن الروح الفلسفية لا يمكن اختزالها في مطالب العقل ومباحث العقلانية بأداتها المنطقية؛ بل هي من صلب العقل وما فوقه. 
ورأى في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن كلّ الفلسفات هي "فلسفات صورة"، فهي باحثة إمّا عن المعنى وإما عن الكيان. وفي "المتن الأكبري" تشكّل فلسفة الصورة أفق هذا الفكر وأساسه الموجَّهين بمطلبين: الأول: هو البحث عن موقع خطاب الحق للخلق. والثاني: مواقع الحق في الوجود. ففلسفة الصورة عند ابن عربي أهي باحثة عن المعنى، أم عن الكيان، أم أنها جامعة بينهما؟ وهل هذا الأفق يعمل على الجمع بين المفارقة والمحايثة؟ أوَلا يمكن اعتبار الصورة البرزخية حلاً لإشكالية هذا التعارض والتقابل؟ 

ميتافيزيقا الشيخ الأكبر تتأسّس على فكرة التجليات لبناء العلاقة بين المبدأ وحضوره، وهي رابطة موجّهة بمذهبية الأسماء الإلهية. والغرض من التجلّيات هو تحديد وساطة الوجود، الذي يتشكّل من هذا الحضور المتكاثر. إلا أنّ هذا يثير إشكالاً هو كيف أنّ الوجود مشروط بموجودات العالم، وهو، في الوقت ذاته، واحد؟ 

وقال كازي إن ميتافيزيقا الشيخ الأكبر تتأسّس على فكرة التجليات لبناء العلاقة بين المبدأ وحضوره، وهي رابطة موجّهة بمذهبية الأسماء الإلهية. والغرض من التجلّيات هو تحديد وساطة الوجود، الذي يتشكّل من هذا الحضور المتكاثر. إلا أنّ هذا يثير إشكالاً هو كيف أنّ الوجود مشروط بموجودات العالم، وهو، في الوقت ذاته، واحد؟ 
إن تبلور وضعية التجليات في أفقها المعرفي عمق الحكمة الفلسفية لدى ابن عربي، لكونها محركة لفعل الانكشاف كقوّة على تخطّي الحجب الكثيفة. ويعرف الشيخ الأكبر التجلّيات بقوله: "ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب". 
وأضاف أن قوّة الانكشاف تستدعي ـ بوصفها استراتجيةً أساسيّة للمعرفة الصوفية ـ مفهومي الظاهر والباطن: فبالاسم الظاهر يتجلّى الله عيناً ثابتة من أجل إظهار موجوديتها، وباسمه الباطن يختفي ويتحجب في خلقه. وبوساطة الأسماء تتمّ الإطلالة على المستور والمتخفي. وبهذه التجليات تعطى أهمية وجودية للإنسان في العالم، باعتباره الكائن الأقدر على تحقيق كماله عبر الاستعداد لتلقي هذا الظهور الأسمائي. وبما أنّ الاستعدادات مختلفة، فإنّ مراتب الوجود متباينة؛ إلا أن هذا المخفي والظاهر في المظاهر هو واحد: إنّه نور الوجود المتميّز بوحدته، والقابل للانتشار، وهو ما ينعته الشيخ الأكبر بـ "مركز نور الضياء والظلال": ففي هذا المركز تختفي الماهية الإلهية والقابلة للتشكيل في صور ومراتب متعددة، وأن ما سوى الواحد هو آثار لذات الحقيقة المطوية في المظاهر، وبهذه الآثار نكون أمام معنى آخر للتجلي هو التحول، ومن ثَمّ التقلب؛ لأنّ حضور الوحدة في الكثرة هو في دلالته تقلّب صورة وهيئات مختلفة. والصورة كهيئة مختلفة في مضامينها دالة على موقعها وموطنها. ولهذا، الماهية الإلهية واحدة، وفي الوقت ذاته متقلّبة كهوية؛ لأنّ الوجود كخفاء هو مكنز ودون صورة محددة، لكنّه قابل لارتداء صور متعددة ومتباينة في نوعيّتها وحجمها. 
وأوضح كازي إن ضامن النظام الوجودي في الفكر الأكبري هو الصورة الكاملة الممثلة في صاحب الاستعداد ومدى قدرته على الإحاطة بمعاني الأسماء الإلهية لكونه المقصود من الوجود، وبكمال صورته تتجسّد المرآة الواسعة، أو ما يرى به الحق الخلق. والكمال المقصود هنا هو استعداد لتتبّع كلّ التحولات والشؤون الإلهية، ما يحوّل المعرفة بالخفاء إلى علم بوجود ما تتحقّق فيه وبه معاني الأسماء؛ إنها صورة علامية دالة على صاحبها ـ صاحب العلامة ـ وهي موضوع افتتان ـ عشق ـ من طرف أهل التجلي باستثمارهم ما يسميه الشيخ الأكبر "الخيال الموجد" أو المبدع، تشكيلاً لحقائق جديدة قابلة للتذوّق والشعور شرطاً للانكشاف. 
وأشار إلى إن وضعية المرآة الكاملة هي كونها ممتدّة ما بين التعالي والمحايثة، ما بين التنزيه والتشبيه؛ لأن الصورة الكاملة متلوّنة الوجود؛ بل هي وجه. وبما أنّ وضعيات المراتب ليست سوى تشكيلات خيالية، أو ذات "وجود اعتباري"، فإنّ موضوع اشتغال هذا الأفق الثيوصوفي هو الصور الرمزية أو المسافة المتخيّلة كبرزخ؛ واصل وفاصل ما بين الحقائق الحية والخلقية، وأنّ ماهية الشيء هي في رابطته واتصاله بأصله ومبدئه؛ فهل وضعية الصورة، في كمالها وخفائها وتجليها، هي حدّ للوجود الإنساني كائناً دائمَ السفر والترحال ما بين التعالي والمحايثة، ما بين الجمع والفرق، ما بين الوحدة والاختلاف؟ وهل طبيعة الوجود في انفلاته "الثبوت على التلوين" هو ما يجعل من الموطن الممتاز للكلام والمشاهدة "الانكشاف" برزخياً وبينياً؟  

وضعيات المراتب ليست سوى تشكيلات خيالية
صورة حاوية للكل

إنّ ملء المسافة البرزخية أو البينية هو في عمقه منازلة لوضعيات لا منتظرة ومفتوحة على المطلق والنسبي؛ لأنّ المبحوث عنه في تجربة "التيه الوجودي" هو الأكبر والأعظم أو ذلك اللامنضبط والمنفلت، وفي هذا الأفق  العرفاني يشكّل عنصر التقديس مطلباً روحياً مشروطاً بتضخيم الأنوات المتلقية للتجليات، وذلك بتحويل الأنا الشخصي، كما يرى عبدالرحمن جامي، إلى "إناء" أو صورة حاوية للكل، أو "حوض دلالي" لاجتماع معاني "الأسماء الإلهية".  
وقال كازي إن رهان الشيخ الأكبر علمياً وعملياً هو تقوية للذات الإنسانية، ولصورتها الوجودية، من أجل الإحاطة بالأوسع والأضيق، وبالخفاء الوجودي والمظهر الجسدي، أو العلم بالوجه واليد، المجمل والمفصل. لكنّ انحناءات هذا المضمون الوجودي تتّخذ من هندسة التدوير على شاكلة الوجه المدور مقصده وهدفه، وصلاً ما بين البداية والنهاية، وتجسيداً لأزلية التسوية وجوداً على الصورة الأولية. وبالميل المستمرّ للصور نحو القوة والعظمة، يتمّ استكمال الامتلاء الوجودي الظلي، ومن ثَمَّ الكمال. 
وبهذا المعنى الأخير، تتحدّد فعالية الصورة وقوتها على الانفتاح؛ لأنّ فضل الصورة هو بظلها الأعلى، فسحةً للتواصل ما بين الوجهين والقوسين والميلين. إن "مديح الظل العالي" هو بملئه الوجودي، حيث المجرى الثابت للحقائق أو خفاؤها الثبوتي والعلمي ووجودها الظاهر. لكن ما سرّ الوجه في علم الصورة والوجود؟ فإذا كان أوّل ما يفحصه الطبيب هو الوجه، فإنّ أعظم ما يؤرق "أصحاب الوجه" (المحققون) هو العلم بحروفـه وسماته، ومن ثَمَّ خطوطه الوجهية. وهذا ثيوصوفياً تحويل لقيوميّة "الألف" إلى ميل "بائي"، في امتداده الخطي الدال على انبساط الوجود، خلقاً للألفة والقرب والقوّة على التفاوض مع الإلهي، ومن ثمّ الحوار. 
ولفت إلى إن تحويل قيومية الألف إلى انبساط وجودي (بائي) هو جمع بين الجلال والجمال، كأعلى علامات مقربة للصورة الوجهية. لكن اعتبار الشيخ الأكبر صاحب حوار ومعلماً لكيفيات التفاوض مع الإلهي هو ما يجعل من حياته العملية ملتصقة بحياته العلمية؛ علماً بأنّ شيخنا صاحب وحاور أكثر من شيخ. وهذه هي علة الطواف المستمر بالأمكنة، بحثاً عن الأرض الواسعة، والصورة الأقوى، والمرآة الأوسع. لكن ما الغرض من هذا البناء المتلوّن للحقائق والصور والمرايا؟ هل هو البحث عن المخفي في تلويناته؟ وهل هذا بحث عن شخص بعينه، وهل التقى بهذا الشخص أم وجده في نفسه؟ 
ورأى كازي إنّ ترحال ابن عربي هو في عمقه تأكيد لثباته الوجودي، وانتقاله بين الشيوخ، هو استمرار لعطاءات أمّه الروحيّة "فاطمة بنت المثنى"، التي خدمها وصاحبها برضا أمه الطينية. وهكذا فـ "الشيخ الأكبر" هو صاحب سرّ وجودي، وقد سبق فتحُه سلوكَه، ولهذا تبلور منهجه ورؤيته على فكرة  الإجمال كأول ظهور، وأول صورة قابلة للتفصيل والبناء، وإعادة البناء؛ فنظره إلى الكثرة، هو لخفائها التوحيدي، أو للصورة الجامعة ما بين "وحدة الكثرة وكثرة الوحدة". فسرّه وترحاله هما في المكان نفسه، ولقاءاته بالشيوخ هي للشيخ نفسه، وتدوينه المتعدد هو للكتاب نفسه، فليس هناك إلا الواحد؛ النقطة الواحدة، والكتاب الواحد، والمرأة الواحدة، والشيخ الواحد، والصورة الواحدة، والمريد الواحد (القونوي)، والمرآة الواحدة.  
  وخلص إلى إن منزلة هذه الصورة العلامية ليست معزولة عن صور الضمائر الأخرى: الأنا، والأنت، والنحن، والهو؛ إنها صورتي وصورتك وصورتنا، أو وجهنا الآخر الغائب في حضوره والحاضر في غيابه. وبهذه الصورة العلامية، يتمّ بناء حقانية الوجود ووجدانه، أو الحياة السرية والسارية في الكل، والتي هي حياة الهو، أو حياة المدلول في داله. 
وهكذا انتصار "الشيخ الأكبر" للمعنى  اللاجسماني للصورة (اللطافة) هو إعلاء من شأن العلامة النيرة الأقوى على الاتصال والتواصل.