فن إفساد القراءة

القارئ مطالب بضرورة فهم أصل فعل القراءة، وهو فعل الفهم حتى لا يقع في فخ عدم التفرقة بين النقد المبني على التمييز بين الجيد والرديء والنقض المضاد لعملية البناء وفيه يتعمد أن يفعل بالكتاب الموجود بين يديه أي شيء إلا أن يقرأه.
ترصُّد الهفوات الموجودة في الكتب يبني علاقة عدائية مع القراءة
القراءة السليمة مبنية على درجة من اللقاء بينك وبين الكِتاب وكاتبه

لكل عمل -فضلا عن أن يكون جليلا- مجموع آداب، يتعين على فاعلها أن يلتزمها قدر الإمكان حتى يستطيع الاستفادة مما يفعله بصورة صحيحة ناجعة.
 وفي عملية القراءة بعض آداب -والأصح أن يقال: أدبيات لازمة، أو واجبات، أوجبها وأولها أن يتذكر القارئ أصل فعل "القراءة"، وهو فعل "الفهم". 
قد ينسى بعضنا هذا الغرض الأصيل، وهذا الفعل الجوهري في قراءته، فيقرأ أي سطور تطالعها عيناه بطريقة لا تفيده في شيء، ولا توصله إلى الهدف من القراءة. طريقة "يقرأ" فيها كمن "يَنقُض"! .. أيْ إنه ترك مهمة "القارئ" إلى مهمة "الناقِض". وقفز من موقعه في بناء المعرفة إلى موقع آخر في هدم ما لم يعرف بعد.

 ان هذا الأسلوب في القراءة، على مختلف درجاته، يجعلك مبتعدا عما تقرأ، لانك تقرأ حينها متعاليا عن المادة التي تقرأها، 

 وهذا أسلوب في القراءة يفسد عليه ما يقرأه -من حيث المتعة، وينفي عنه الاستفادة -من حيث الغرض العام، ويُقصيه من تعرُّف ما قرأه من حيث المعرفة. وتستطيع أن تقول لمن يقرأ بهذه الطريقة: أنت لم تر الكتاب من الأَساس، فلا تدَّعِ قراءته!
يفتح بعضنا الكتاب، ويبدأ في القراءة وهدفه الأكبر هو الترصد للأخطاء الموجودة فيه أو حتى الهفوات التي لا تُذكَر ولا يُؤاخَذ عليها أحد، ونراه يمتطي فرسه ويشهر سيفه في وجه كل ما قد لا يتفق مع رؤيته أو أسلوبه أو أفكاره أو مشاعره. وتكتمل متعته عندما تقع عيناه على شيء مِما سبق، فينقضُّ عليه انقضاض مَن لقي بئرا في صحراء أواسط إفريقيا!
ثم نسمع من خبايا نفسه مِثل هذه العبارات: ها .. لقد أمسكت بك.. يا له من خطأ فادح!.. لقد أفسد ما كتب! كيف أقرأ كتابًا كهذا؟! يا له من كاتب جاهل!

 النقد مهمة، وليس درجة يعلو بها الناقد على القارئ، ومن توهم هذا فعليه أن يصحح وهمه 

ثم يمضي في رحلته الاستكشافية، أو في المسابقة التي عقدها لاقتناص أكبر عدد من الأخطاء، وعن طريق هذا القناص الخطر فلنبتعد، كما نبتعد عن الأمراض، حتى لا يصيبنا بعدواه.
وفي هذه الممارسة القرائية عدم تفرقة بين عمل "النقد" وعمل "النقض". و"النقد" هو التمييز بين الجيد والرديء من الأمور -في أبسط تعاريفه وأشدها مركزية-. أما "النقض" فهو الهدم، وهو ضد البناء. وقد تدخل هذه الممارسة فاعلها رحلة الفساد الكامل للقراءة. وكأنه تعمد ألَّا يقرأ. أو تعمَّد أن يفعل بالكتاب الموجود بين يديهِ أي شيء إلا أن يقرأه!
إنَّ هذا الأسلوب في القراءة، على مختلف درجاته، يجعلك مبتعدا عمَّا تقرأ، لأنك تقرأ حينَها مُتعاليًا عن المادة التي تقرأها، منفصم العُرى عنها، بل ناصبا مجانيق العداء. تنظر إليها بنظرة الاتهام، لا الفهم. وكأنَّك تريد من الكِتاب في كل سطر أن يقدم لك أدلَّة اتهام الكاتب بأنه مخطئ، لا أنْ يُشاركك فيما يريد أن يقدمه.
أما فعل القراءة السليم فهو مُنبنٍ على درجة من اللقاء بينك وبين الكِتاب بل وكاتبه، فلن يتحقق لك الفهم إلا بأن تبذل الجهد في مقاربة أداة فهمك (فكرك في الأعمّ الأغلب، وكيانك كُليَّةً في درجة عليا من القراءة) وإعمالها مع تلك المادة التي تنظرها أو تسمعها.  وان هذا المشهد السقيم الذي وُصف مُماثلٌ لبعض مشاهد الكوميديا في الأفلام، حينما تجد فلانا "يقول" وانه في يقف في صف آخر ومعه ثم يلكمه لكما،

''دون أن نفهم، لا نستطيع أن ندَّعي القراءة'
'دون أن نفهم، لا نستطيع أن ندَّعي القراءة'

 ويعود يطمئنه بقوله ثم يصفعه صفعا، ويكرر احتضانه بيد وهو يكيل له بالأخرى الضرب المبرح.
وهذه الممارسات تنبني على فرضين زائفين، الأول: أن الكتاب يقدم الصواب التام، وأن الكاتب لا يُخطئ فيما يكتب، فقد تخلى عن إنسانيته، ونطق بلسان الحق المطلق. والفرض الزائف الآخر: هو أن البشر كلهم متساوون في رؤاهم، لذلك فجميعهم على قول واحد، هو ما رآه السيد القارئ!
وأريد أن أقول: انَ "الناقد" الذي هدفه "النقد" لا يقرأ بهذه الطريقة. لأن "النقد" يتطلب أن تعرف الشيء، وتقف على جوهره، وتفاصيله، وأسلوبه أولا، ثم تمضي في طريق هدفك، وهو تمييز الجيد من الرديء، وإبداء الرأي فيما ينقد -هناك أهداف أخرى كثيرة، لكن الكلام على الفكرة المبدئية.
وهنا نتذكر ما أرسته حضارتنا الإسلامية من قاعدة: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، ونرى منها أن كلامنا كله منضبط بسياقنا الحضاري العام، وكذلك ندرك جميل ما استظلَّت به تلك الحضارة من قيم عليا. فلا يتوقع فاعل هذه الممارسة القرائية أنه قد صار ناقدا فاهما مسيطرا لذلك هو متحكم فيما يقرأ، بل هو هنا قد تخلى عن موقِعَيْ القارئ والناقد معا، وراح يقتل الضحية بدل أن يحييها.
وأريد أن أطمئن من يقرأ بهذه الطريقة إلى أن "النقد" مهمة، وليس درجةً يعلو بها الناقد على القارئ، ومَن توهَّم هذا فعليه أن يُصحِّح وَهْمَه. إنَّ "الناقد"-في الأصل- خادمٌ للقارئ، ممهد له سبيله، كاشف الطريقَ لتصبح أوضح أمام من يقرأ.
وإن كان هذا هو الدور الصحيح للناقد، فلننتبه نحن القراء إلى دورنا في القراءة. فلسنا مسيطرين على الكتاب، إنما نحن فاهمون له في المقام الأول، ولنتنبه أننا دون أن نفهم، لا نستطيع أن ندعي القراءة. ولنكن واعين إلى أن القراءة دائما تأتي من رؤية تفهم لما تقرأ، لا تَعَالٍ على ما تقرأ. 

 دعوة الى عدم التعالي على الكتاب
دعوة الى عدم التعالي على الكتاب

 ان الشخص يقرأ جيدا عندما يستطيع أن يصل إلى ما قرأ وجدانا، وفكرا، وأسلوبا. بل هو الشخص الذي يتفهم حتى أخطاء الكاتب أو ما يبدو أمام ناظريه أخطاء، ويتعامل معه من منطلق فهم صحيحٍ، مُقدِّرا للاختلاف الطبيعي الذي فُطر عليه البشر. 
وليس معنى هذا أننا نريد بناء قارئ أبله، لا يعرف حقيقة ما يقرأ.. لا بل نريد بناء قارئ عارف بمواطن الخطأ، متنبه له. وهذا المقام مقام متقدم، لن يتحقق إلا بمما تأخر عنه من فهم صحيح ابتداء. ونريد بناء قارئ عالم أيضًا بحقيقة الضعف الإنسانيّ، بأنه جلَّ في علاه من لا يخطئُ ولا يسهو. فيسجِّل القارئ الأخطاء عارفا بها، ويعرف قدرها من البناء الكلي لما يقرأ، ومن هنا يتعامل مع ما يقرأ تعاملا صحيحا.
إن القارئ الجيد هو الذي يعيش مع الكتاب متأملا، لا من ينظر للكتاب متسلطا.. فتخير لنفسك أية طريق ستسلك في مشوار قراءتك.