دراما عربية جادة وهادفة في 'صوت وصورة'

المسلسل يؤكد أن الأعمال الجادة الأصيلة الهادفة ما تزال تقاوم للظهور في الفن العربي.
العمل يفتتح الاهتمام الدرامي الجاد بمشكلات العصر التكنولوجي الجديد

مسلسل "صوت وصورة" للمؤلف محمد سليمان عبدالمالك والمخرج محمود عبدالتواب؛ يقدم تجربة جريئة وثرية تقف لتناقش أحوال المجتمع على حافة التغيير الجديد الذي أحدثته التكنولوجيا الحديثة، التغيير الجذريّ الذي يترك المجتمع في حال ذهول وتخبط المُكتشف المُتلمِّس طريقًا، بل الشاكّ أنْ ما زال طريق أمامه أصلًا، ولعل تجربة كهذه التجربة تستحق من النقد، لا أن يلتفت إليها وحسب، بل أن يوليها اهتمامًا خاصًّا، وتحليلًا خاصًّا لعناصرها المختلفة، تأليفًا وإخراجًا وتمثيلًا، بل إنتاجًا.

مسلسل "صوت وصورة" الذي أنتجته شركة "أروما"، يُعرض هذه الأيام على منصة "watch it" المصرية، بواقع خمس حلقات في الأسبوع. وقد انتظرت لأشاهد حلقات كافية تمثل قرابة ثلث المسلسل، لصلاحية الحكم عليه ورؤيته في نسق واضح. ويدور المسلسل حول موظفة إدارية رضوى ممدوح (حنان مطاوع)، تتقدم للعمل في عيادة طبيب تجميل شهير يدعى عصام الصياد (مراد مكرم)، وهي متوجسة من سمعة الرجل أنه يتحرَّش جسديًّا بالعاملات معه، لكن يدفعها دَين زوجها عبدالغني (وليد فواز) للإقدام. ويساعدها الطبيب في تسديد دينها، لكن سرعان ما يتحقق ما توجست منه، فتلجأ رضوى للقضاء، وللتصعيد الإعلامي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وتمتد الحرب بين الطرفين بمُساعدة نرمين زوجة الطبيب (نجلاء بدر)، ومحاميتها ماجدة (ناردين فرج)، وصولًا إلى مقتل الطبيب في حادثة غامضة، واتهام رضوى وحدها، ليخوض المحامي لطفي عبود (صدقي صخر)، ومساعده وافي (عمرو وهبة) معركة للدفاع عنها.

وقبل البدء في التحليل بإيجاز، أود أن أبرز وجوهًا عامة لتميز هذا العمل عن غيره من المسلسلات المصرية في الآونة الأخيرة، والتي بلغت درجة ضخمة من السوء. فقد امتاز هذا المسلسل بالحرص على تقديم عمل يصلح للمشاهدة الجماعية، ويظهر هذا في أن المسلسل الذي بدأ بحدث رئيس (تحرُّش رجل بامرأة) اختار الطريقة الفنية في إبراز هذا الحدث، بتصوير أثره على المُمثلين وعلى الأحداث، وبتقنية تصوير مميزة تنقل فداحة الحدث دون نقل الحدث نفسه. وهذا مما يُحمد للعمل، كما امتاز بأنه عمل عربي مصري، اختار حدثًا من الواقع الفعلي، وفكرة طرأت على المجتمع، كما نشهد فيه القيم العربية، والشخصيات أقرب للواقع، على خلاف كثير من المسلسلات الآن، التي تكاد تنقل نقلًا واسعًا ضخمًا عن الأعمال الغربية، حتى ليبدو العمل أبعد ما يكون عنَّا، ليس فيه من الواقع شيء. كما أحيي الصُّنَّاع على خلو التنفيذ من العادة السامة "التدخين"، وقد صارت سمة فاشية في غيره من الأعمال.

وبالنظر إلى الثلث الأول من المسلسل، نجد أن مؤلف العمل محمد سليمان عبدالمالك بنى مسلسله على فكرتين: الأولى -وهي الأبرز والأخطر، والتي صُدِّر بها المسلسل في عنوانه-، هي التأثيرات الضخمة التي غرق فيها المجتمع المصري والعربي في عصر التواصل الاجتماعي، حيث صار الجميع يُطوِّع حياته -اختيارًا أو قسرًا- لهذا العصر التواصلي، والأجيال الجديدة تبني أحلامها وأفق مُستقبلها على "النموذجين المعرفي والأخلاقي" لهذا العصر (حوار رضوى مع ابنتها عن مكاسب "التيكتوك" في ح1). وصار الرأي العام رهين "الحقيقة" -أو ما صار يسمى الحقيقة- التي يصعنها التواصل الاجتماعي، والقضايا والموضوعات الرائجة عليه (تريند). تُشكِّل هذه الرائجات وما يبثُّ فيها الرأي العام كما شاءت، بل تفرض الرأي فرضًا، وإنْ كان فاسدًا واضح الفساد.

ثم ينضمُّ هذا للموجة الأحدث من التكنولوجيا، وهي الذكاء الاصطناعي، وبعض استخداماته السيئة، مثل برامج التزييف العميق (Deepfake)، التي تُخلِّق مواد صوتية ومرئية مزيفة، تشبه -إلى حد بعيد- الحقيقة، فكيف نفرق الحقيقة في عصر اللاحقيقة الثابتة؟! .. هذه هي الفكرة الأولى.

والفكرة الأخرى التي اعتمد عليها بناء العمل -وهي الروح العامة أو الجو العام في المسلسل-، هي تطويع قضايا المرأة وموجة النِّسوية التي حلَّت على العالم العربي في السنوات الأخيرة، والتي تجتاح العالَم وتُفرض عليه فرضًا من الشركات والمؤسسات العظمى. لكن المميز في هذا العمل أنه خاض في هذه النقاشات النسوية، وقضايا المرأة بالمنظور العربي المعروف، لا المنظور الغربي المفروض. ونجد هذا البُعد النسوي في بطولة العمل للشخصية النسائية، وبناء الحدث الرئيس فيه على مسألة التحرُّش، وبناء الدافع الرئيس لشخصية رضوى على حماية الأنثى من طغيان الرجل، وخوفها على مستقبل ابنتها في "غابة المجتمع". ونجد أصداء كثيرة لما يُسمَّى بالقهر الذكوري، ونشاهد شخصيات نسوية (المحامية، وزوجة الطبيب) مُصرِّحة بذلك، ونسمع كثيرًا من العبارات المُسيئة للرجل وأنه خائن غادر (شخصية صديقة رضوى في السجن)، أو مُتخاذل مُتخلٍّ عن المسؤولية (شخصية عبدالغني).

ومثل هذه التأثيرات كثيرة في المسلسل، لكنها -كما أسلفت- نُوقشت وعُرضت في ظل رؤية عربية عادية، لا نسوية متطرفة، فكما نرى الرجل المتخاذل نرى الشهم المُغامر، وكما نرى نموذجًا صريحًا لسيدات المجتمع النسويات، نشاهدهُنّ يتلاعبن بهذا المبدأ النسوي لمصالحهن الخاصة (أبرز النماذج شخصية المحامية)، بل نسمع وجهة النظر الأخرى التي تشكو أن النسوية صارت سيفًا مُصلتًا على رقاب الرجال، ليس في الأمر سوى محض ادعاء من أية أنثى لتنتهي سمعة ومسيرة أي رجل.

وقد امتاز تأليف العمل بالربط القوي بين الفكرة والأحداث، حيث ضفَّر المؤلف فكرة العمل ومعناه في كامل نسيج المسلسل، بأحداثه وحواراته. فمتى نظرنا وجدنا أن الأحداث الرئيسة في الثلث الأول ثلاثة: الحدث المبدئي -الذي أشعل الأحداث-، وهو التحرُّش، والحدث الثاني جريمة القتل، والثالث هو إجراءات المحاكمة. هذه هي أحداث المؤلف التي أقام بينها الكثير من دوافع الشخصيات، وتداخل الخطوط الدرامية، وجميعها اتحد مع معنى العمل، فغالب الأحداث الجزئية التي قادت إلى الأحداث الرئيسية هي من تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، ومن وحي الذكاء الاصطناعي، ملفوفة بروح قضايا وهموم المرأة.

أجرى المؤلف هذه الأحداث في إيقاع سريع وأحداث متوالية، مُرتكزًا على قيمتين أساسيتين: هما شرف المرأة، والاختلافات الطبقية. وبث هذا كله من خلال مجموعة شخصيات -أجَّلتُ الحديث عن الشخصيات مع التمثيل- معبرة مؤثرة. ليكتب عملًا دراميًّا واقعيًّا، مُطعَّمًا بالإثارة والغموض.

وتميزت حوارات المسلسل باللغة العامية الراقية، التي عبَّرتْ عن الشخصيات دون الوصول لحد الابتذال والإسفاف والشناعة التي تظهر في الأعمال الأخرى. وبذلك خلا حوار المسلسل من عيبَيْن في حوارات المسلسلات الأخرى -بل الأعمال كلها-: الحوار السُّوقيّ المبتذل الرذيل الذي يؤثر على المُشاهدين تأثيرًا سلبيًّا، والحوار المليئ بالإنجليزية والفرنسية الذي فشا بصورة متوحشة في الآونة الأخيرة، حتى يكاد المُشاهد يطالب بالترجمة المكتوبة على الشاشة، وهو ينظر إلى بلاهة ما أمامه من صناعة.

وقد أبدع المخرج محمود عبدالتواب في نقل هذه الدراما، وأظهر أسلوبًا وبصمةً خاصةً في العمل. يبدو هذا في اختياره أسلوب الإخراج الواقعي لعمله الذي تمثَّل في التصوير بأماكن التصوير الحقيقية، وبواقعية الملابس (تصميم عبير البدراوي)، والتزيين (ماكير العمل مصطفى نجيب) الذي كان مميزًا جدًّا، وهادئًا وأقرب ما يكون للشخصيات في واقعها، كما ظهرت الواقعية في اختيار الإضاءة من مدير التصوير عمر حسام علي، والمصادر الواقعية للإضاءة في المشاهد.

وامتاز عمل المخرج في تركه مساحات كافية للإبداع التمثيلي من مُمثلي العمل، بل زاد في هذا بالكثير من الملاحقة لردود أفعال الشخصيات تجاه الأحداث من خلال الكثير من اللقطات المُقرَّبة للوجوه ولحركات الأيادي والأرجل والشفاه لمُمثلي العمل، مما يوضح أهمية إبراز أقصى طاقة تمثيلية للعمل لدى المُخرج، كما يوضح كم كان الممثلون مُجيدين في عملهم.

والمخرج مُولع بالتصوير من الحركة لا الثبات خاصة في بدايات الكثير من المشاهد، فنراه فيها ينتقل بالكاميرا من محل تصوير هامشي (غرفة جانبية، أو ممر، أو شُرفة،...) وصولًا إلى محل التصوير الأساسي. لعل هذا يضفي على المشاهد بعض الحيوية في التلقي. ويُكثر من استخدام اللقطات شديدة الاتساع للميادين أو للمدينة مُفتتحًا للحلقات، أو للمَشاهد، أو فواصل مونتاجية. وهذا اختيار موفق جدًا منه في ظل تعبير المسلسل عن تشكيل الرأي العام في المجتمع.

كما أظهر بعض التكوينات الجمالية المعبرة في بعض المشاهد، وأذكر هنا تكوينًا فنيًّا لافتًا في الحلقة الأولى، إثر تلقي رضوى إنذارًا من المحكمة بضرورة سداد الدين على زوجها، حيث نراها في آخر التكوين عند الباب، بين عمودين من الشقة يمثلان السجن الذاتي للشخصية، ناظرةً إلى ابنتها التي تمثل مشهدًا على "تيكتوك"، متحسِّرة عليها، والكاميرا المتحركة -التي يفضلها المخرج- تنسحب من المشهد، من شرفة المنزل التي تمثل مصدر الضوء الوحيد. وهذا تكوين بارع من المخرج، يدل على الموقف الدرامي العام لشخصية البطلة طوال العمل.

ومن وسائل نجاح التنفيذ، الموسيقى التصويرية التي ألَّفها محمد مدحت، والتي نوَّعتْ بين حنين آلة الكمان في المشاهد الدرامية التأثرية، ونبضات قصيرة بدقات آلة البِيان لمشاهد القلق والتوتر، ومع تنويعات أخرى صاحبت المشاهد لتعزز من التأثير الدرامي للتمثيل، وكذلك جهود مهندس الصوت مديح إبراهيم التي مزجت بين هذه الموسيقى المؤثرة والحوار، مع إضافات مميزة لأصوات الجو العام.

وليس يتمُّ هذا النجاح إلا بجهود الممثلين. وقد دفع هذا العمل مجموعًا كبيرًا من الممثلين للسوق، مع إبراز كامل لقدراتهم التمثيلية، كما أوضحت في عمل المخرج. ولم يخيب الممثلون الظن، وكيف يخيبون وعلى رأسهم عَلَم على المهارة والموهبة حنان مطاوع ابنة الراحل الفنان المثقف الكبير كرم مطاوع والممثلة المقتدرة سهير المرشدي، وهي فرع عن شجرتهما مُزهر مُثمر. وقد استطاعت أن تمثل شخصية المرأة المصرية، من الطبقة الدنيا، المحبة لأسرتها، المضحية، المأزومة حياتيًّا، المنسحقة تحت ضغط المجتمع، المتوجِّسة من غدر الزمن الذي تتوقعه دائمًا، لكنها -رغم ذلك- مقاتلة.

وقد أجاد الممثل صدقي صخر في شخصية المحامي لطفي عبود المعتزل للمجتمع، طيب القلب، الذي يغامر في الدفاع عن المظلومين، وهي شخصية قديمة المزاج، تميل للأصالة، وقد أضاف لها المؤلف بُعدًا -يكاد يكون رمزيًّا- للتعبير عن هذه السمات، وهو إدمانه الشاي بالنعناع (وهو في البيئة المصرية تعبير عن روقان البال، والحديث الطيب، والمُسامرة اللطيفة، على خلاف الإيقاع السريع الأهوج لهذا العصر)، كما استطاع بمهارة واضحة قيادة المُشاهِد في إيصال مجريات المُحاكمة، رغم تعقيدها، وكثرة تعاريجها، ولعله إضافة مثرية ومجددة لأدوار البطولة في الأعمال القادمة.

وكذلك أجادت الممثلة نجلاء بدر في دور سيدة المجتمع الناشطة، ودراميًّا استطاعت التعبير من خلال إيماءات عن معرفتها بحقيقة زوجها الطبيب، وصراعها الداخلي لإنكار هذه الحقيقة من خيانة الزوج، تعزيزًا لذاتها الشخصية، وأن رجلًا لا يستطيع خيانتها وتركها. وحقيقةً أحسنت في النمط الهادئ لاستخدام المساحيق التجميلية، بل تكاد تتخلص منها في كثير من المشاهد.

وظهرت إجادة واقتدار من الممثل وليد فواز في شخصية الزوج المقهور عبدالغني، فني التحاليل، وهي شخصية ضعيفة سلبية إلى أقصى حد، منسحقة تمامًا أمام ظروفها، إلى درجة الإذلال. ولعل طبقة الصوت المبحوح المخنوق التي ركز عليها الممثل، وانحناء جسده رغم ضخامة بنيانه؛ كانتا علامتين على إجادته الدور.

ورغم أن دوره يتركز على الثلث الأول، إلا أن الممثل مراد مكرم قد رسم لنا صورة واضحة بهدوء وثقة للطبيب المشهور ورجل المجتمع عصام الصياد، الذي تتحكم فيه نزواته، ويستهين بحرمات الناس في الخفاء، رغم صورته اللامعة في العلن. مع تعميق لأسباب هذه النزوات دراميًّا مع الكشف عن بعض خبايا علاقته بزوجته.

ولم يقصر الممثل عمرو وهبة في رفد العمل بالكوميديا اللطيفة، في شخصية محورية مؤثرة للشاب وافي، خبير التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي. كما امتاز عمل الكثير من الممثلين، مثل فدوى عابد في دور الممرضة سعاد الانتهازية والمنتفعة، اللاعبة على كل الجهات، وأجادت إجادة تستحق التنويه. والممثل الموهوب ذو الصوت المؤثر رامي الطمباري في دور الضابط حسين، الذي تتعمق شخصيته لتمثل دوافع ذاتية للمُساعدة في سياق الأحداث في القادم. وكثير غيرهم من ممثلي العمل، فهو مسلسل راقٍ جدًا في قيمته التمثيلية.

وفي الحق، إن المؤلف والمخرج بما وضعاه من مواقف في العمل، وبالإصرار على التصوير في الأماكن الحقيقية، زادا عبء جهة الإنتاج بصورة لا تصدق، فالتصوير تمَّ في دار القضاء العالي، وفي إحدى دور النيابة العامة، وفي أحد السجون الجديدة، وفي شوارع كثيرة من وسط المدينة. وهذه جهود ضخمة، وحمل كبير على كتف عناصر الإنتاج، بما يكلفه التصوير في هذه الأماكن من تصاريح وتدابير واحتياطات وأعباء لا تقارن بالتصوير السهل في المواقع المُعدة للتصوير. وقام المنتج الفني أحمد عبدالعزيز بهذا العبء، مع مدير الإنتاج الخبير محمد حسني ومحمد رفعت.

مسلسل "صوت وصورة" الذي يفتتح الاهتمام الدرامي الجاد بمشكلات العصر التكنولوجي الجديد، وما تتيحه هذه الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي، يؤكد أن الأعمال الجادة الأصيلة الهادفة ما تزال تقاوم للظهور في الفن العربي، ويستحق الاهتمام النقدي، والمتابعة الجادة.