في رواية "مايسترو" المكان يستمد عمقه من رائحة الأم

المنزل العتيق في رواية آمال مختار يمثل فضاء للمتخيل ولانفعالات الشخصية وارتباطها بشخصيات أخرى وانفتاحها على فضاءات مكانية مغايرة.
الفضاء الهندسي الذي صورته الكاتبة طوبغرافيا يرتبط بالذكرى وغياب البعد العاطفي
المرأة مجرد جسد متشيء لرجل يرمز للفحولة الجنسية يتابع حركاتها وسكناتها

بقلم: هيام الفرشيشي

في رواية "مايسترو" للأديبة التونسية آمال مختار، تنطلق الأحداث وتتناسل الشخصيات في الأزقة الضيقة، المبلطة بالحجر المصقول وقد اقتربت جدرانها وأبواب منازلها المتقابلة، تنفذ بنا  إلى دار تدخلها الشخصية الأساسية في الرواية "عفيف" عبر الباب الأزرق الثقيل، بمساميره السوداء الغليظة المرشوقة في سطحه كآثار سهام. يتجاوز السقيفة وصحن الدار، تتوسطه نافورة تبدو أبوابها مغلقة تنطوي على اسرارها. ولكنها تحمل ذاكرة أم رحلت يراها تتنقل من غرفة إلى غرفة، تذرع صحن الدار، تدخل المطبخ، ثم تطلع الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي في المنزل، العلي. 
فالمكان يستمد عمقه من رائحة الأم وصورها الموزعة في أركان المنزل العتيق الذي يمثل فضاء للمتخيل ولانفعالات الشخصية وارتباطها بشخصيات أخرى وانفتاحها على فضاءات مكانية مغايرة. فالفضاء الهندسي الذي صورته الكاتبة طوبغرافيا في الصفحات الأخيرة من الرواية يرتبط بالذكرى وغياب البعد العاطفي. إلا أنه يمثل فضاء عزلة وانفصال نتيجة الانفصال عن الأم في سن مبكرة بما تقتضيه قيم العائلة المحافظة.
تمثل الدار العتيقة صورة للموروث الأبوي من خلال رب الدار الذي فارقها إلى القبر الطاهر بلقايد. إمام وقور غرق في العبادة والقران إلى أن أصبح شيخا مدرسا، إلا أنه يمثل أنموذجا للموروث الذكوري فهو نهم جنسيا كثير الزيجات في السر، أما دور زوجته فاطمة فهو حسي جمالي تمارس فنون الإغراء لتلبية شهواته. 
فالمرأة مجرد جسد متشيء لرجل يرمز للفحولة الجنسية يتابع حركاتها وسكناتها. ويوصي بمراقبتها حين تخرج. فصل فيها الابن عن أمه في مرحلة مبكرة من عمره رغم تعلقه الشديد بها ليعيش صراعا مع الوالد الذي يمثل عقدة أوديب فهو ينقم على والده ويحتقره ويحتقر معاملته للمرأة كجسد مغر سواء كانت زوجة أو مومسا، ليتحول الابن بدوره إلى صورة مكررة للعنف الذكوري ولكن بطريقة عنيفة وهو يفرغ شحنته الجنسية ويعنف العاهرات.
تصميم هذه الدار يحيل القارئ الى نظام اجتماعي يذكر الرجل ويؤنث المرأة، دور المرأة فيه هو تلبية رغبات الجسد، اذ يحمل الجسد دلالات اجتماعية ثقافية تشير إلى الهيمنة الذكورية على المرأة واستعبادها. 
وبسبب هذه القيم الذكورية يعيش الابن أزمة نفسية وتميزت ردود أفعاله بالعدوانية تجاه المرأة مع تعلقه المرضي بصورة الأم. بعدما كان الابن المطيع الخاضع لأوامر الأب علنا، ولكنه ينقم عليه في السر ويتلصص على الممارسات الجنسية لوالديه وحين يكتشف أن أمه تخون أباه مع رجل آخر يشعر أنه يصفي حسابه مع الأب. فتصميم عمارة الدار يشير إلى العزلة والكبت وضرورة الخضوع والتقليد.
 ورغم ذلك نشا الابن متقلب المزاج، يكره الروتين والارتباط. يجد في البحر حريته وملاذه لهذا تخلى عن لباسه التقليدي بعد دخوله المعهد الصادقي إثر وفاة والده وتخلى عن التعليم، واشتغل عتالا في المركب بين تونس وجنوة. وكان ينشد بيئة بحرية أمومية، بيئة تدعو للتمرد والمغامرة، بدون تصاميم هندسية تحمل بين طياتها موروثا أبويا، إذ يبقى البحر بعواصفه المفاجئة ملاذا للحرية والتحدي، بل عن طريقه التقى بالإيطالية فاليريا التي انتقلت به من مجتمع ذكوري صارم إلى مجتمع أمومي تتميز فيه المرأة بالقيادة الاقتصادية وتشبهها بطباع الرجال في كل حالاتهم،  اثناء العمل خاصة، هذا الى جانب انها حرصت على انتساب أبنائها لها أثناء مغامراتها الجسدية في المركب. إلا أن الانفصال عن عمارة المدينة والاندفاع نحو عالم طبيعي دون هوية ثقافية جعله يقرف من روائح البحر كقرفه السابق من روائح الأزقة العتيقة وملابس الموتى وكل ما يحيل إلى روائح الذاكرة. إذ فقد حلمه بمجتمع أمومي مرتين، الأولى بفقدان الأم، والثانية بفقدان فاليريا.
 يعود إلى تصاميم المنزل من بابه الكبير تغيب عنه الأم عن ممارسة طقوس النافورة، ينقطع ماء الحياة بعدما فصل وجوديا عن البحر، ليعيش غربة داخل العزلة ويدفع ثمن الحرية المسلوبة، ويختبر مشاعر الخيبة والعجز، فالوجع أكبر من المغامرة والسفر إلى مكان أبعد من البحر وخارج أقفاص تصاميم المنزل العتيق كان مصيره. يغادر بيئة راكدة بدون قوة داخلية، بتصاميم محاصرة لذاته.
من خلال رواية "مايسترو" لآمال مختار نلمس أن شعلة الوجود وتحقيق الذات تكمن في إبداع حيز مغاير قد يحمل قيما أكثر حرية، وإن العمارة الكلاسيكية التقليدية لها دلالات رمزية تشير إلى انغلاق هذه الدور على نفسها، على قيمها الاجتماعية والدينية، وعلى غياب الأفكار الجديدة.