في غزة، لا يعمر الاسمنت طويلا

لا تتوقف الحروب في غزة فلا يتوقف الهدم. لا التعويضات من الأونروا ولا أموال قطر ستحل المشكلة.

في عز الحرب وقبل أن تضع أوزارها قدم المكتب الاعلامي الحكومي في غزة أرقاما أولية تكشف حجم الدمار الذي خلفته المواجهة الأخيرة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي. وحسب المصدر فان 50% من البنايات في مدينة غزة وحدها قد دمرت بالكامل فيما بلغ حجم الخسائر المادية ما يقارب 2 مليار دولار. وبطبيعة الحال فان الغرض من تقديم مثل هذه الأرقام هو التماس الدعم المالي وطرح ملف الاعمار بالموازاة مع القمة العربية الاسلامية التي عقدت في الرياض.

قبل هذه الحرب الأخيرة بـ 4 أشهر كان العشرات من متضرري حرب 2014 قد نظموا وقفة احتجاجية أمام مبنى وكالة الأونروا للمطالبة بالتعويضات التي لم يحصلوا عليها رغم مرور 9 سنوات من تلك الحرب. وكانت اللجنة العليا لمتضرري عدوان 2014 قد طالبت قبل أقل من شهر من اندلاع هذه الحرب، مؤتمر المانحين في نيويورك الذي انعقد على هامش اجتماعات الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، طالبته بالتعويضات. وأحصت اللجنة 7860 أسرة لم يستلموا أي دفعة تعويض من وكالة الغوث، و9008 أسرة استلمت دفعة واحدة فقط، في حين أن 42000 أسرة استلمت من 100-1000 دولار وهي كلفة لا تعكس بأي شكل من الأشكال الكلفة الحقيقية للحجم الضرر الذي لحق ببيوتهم وممتلكاتهم.

بين التعويض الذي ترعاه الأونروا واعادة الاعمار الذي تتولاه قطر ومصر، لا يتغير حال الغزيين كثيرا ولا يعمر الاسمنت الذي يبني بيوتهم طويلا أمام ضراوة الحروب والمواجهات. ملايين الدولارات صرفت على مدار السنوات والمواجهات وملايين أخرى ستصرف. لكن غزة لا تتغير ولا تتطور اذ ان القائمين على شؤونها لا يرون لها مستقبلا خاليا من ألسنة النار وأعمدة الدخان.

خسائر سيف القدس 2021 قدرت بنصف مليار دولار وحصلت على التمويل الكافي من قطر ومصر. ومع ذلك سارت جهود الاعمار بوتيرة بطيئة الى أن أدركتها هذه المواجهة الجديدة وهي تتعدى بكثير تكلفة الحروب الستة مجتمعة التي شهدها القطاع منذ أن جاءت حماس للحكم. لم تنجح ملايين قطر ولا جهود مصر الديبلوماسية في شراء هدنة طويلة الأمد ولم تشفع الدروس والتجارب السابقة في أن تكون حماس أكثر وعيا وشعورا بالمسؤولية تجاه شعب دفع فاتورة مآسي الحروب مرارا وقدم بما فيه الكفاية من التضحيات وترك وحيدا ليواجه واقعه المر بين مطرقة الحصار الاقتصادي وسندان الأجندة الايرانية.   

وسط الحروب المتكررة والحصار المستمر منذ 16 عامًا، أصبح الوضع الإنساني في قطاع غزة الآن شديد الخطورة لدرجة أن حوالي 50 بالمائة من الأطفال يعانون من الأمراض المرتبطة بالمياه. وفشلت كل الجهود السابقة في في اخراج غزة من عزلتها وفي تصحيح المسار الخاطئ الذي قاد الى تدهور الأحوال المعيشية والأوضاع الصحية، واختار العديد ممن توفرت لهم الفرصة الى الهجرة والهروب من جحيم المواجهات التي تفرض نفسها وتعيدهم الى نقطة الصفر واستهلكت عمليات اعادة الاعمار وتعويض الأسر ما كان بامكانه أن يوجه لتحسين الخدمة الصحية وشبكة الصرف الصحي ومعدل استهلاك الكهرباء في اليوم.

تأكد فشل المقاربة الاسرائيلية المبنية على أساس "الاقتصاد مقابل الأمن" وفشلت معها المقاربة القطرية والمصرية المبنية على تثبيت الهدنة واعادة تعمير غزة، وبقيت حماس تتخبط في فلك الاجندة الايرانية وتعيد استنساخ التجارب التي لم تكتف بالعبث بحاضر الغزيين بل بمستقبلهم أيضا. ولكي نكون واقعيين فانه لا يمكن أن نتصور وضعا مغايرا لغزة ما لم يرافق هذه الحرب تغيير سياسي كبير ينتهي اما برحيل حماس عن حكم غزة أو بإعادة تحريك عملية السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين. وغير ذلك لن تتمكن اسرائيل من ضمان أمنها رغم كل ما ترصده من أموال وما تمتلكه من تكنولوجيا لأجل ذلك، ولن ينعم الغزيون بالاستقرار ولن يتمكنوا من انهاء الاعمار حتى تأتي حرب أخرى وتحول كل شيء الى حطام.