شيطنة السلطة الفلسطينية.. في صالح من؟

تتصيد الجزيرة على السلطة الفلسطينية الصغيرة والكبيرة دون أدنى اعتبار للموضوعية.

لا تفوّت قناة الجزيرة فرصة دون أن توجّه سهامها نحو السلطة الفلسطينية، في خلط متعمّد بين النقد المهني والاستهداف السياسي الممنهج، حتى بات هذا الخط التحريري الثابت سمة بارزة في تغطياتها، لاسيما عندما يتعلّق الأمر بالقيادة الفلسطينية في رام الله. منذ سنوات، والقناة القطرية تلبس عباءة "الناقد الموضوعي"، لكنها لا تتوانى عن تسويق سرديات تصوّر السلطة كوكيل للاحتلال، وذراع أمنية لإسرائيل في الضفة، متجاهلةً تمامًا تعقيدات الواقع الفلسطيني الذي لا يحتمل هذا التبسيط غير المنصف، بل يتطلب شيئًا من الموضوعية إن لم نقل شيئًا من الإنصاف.

منذ الانقسام الفلسطيني في 2007، راهنت أطراف إقليمية في مقدمتها قطر وتركيا على حركة حماس كبديل عن السلطة، ضمن رؤية تستهدف بعث نسخة جديدة من "منظمة التحرير" تتماشى أكثر مع توجهات الإسلام السياسي، وتتماهى مع خطاب "المقاومة" وفق الرؤية الإخوانية. ومن هنا جاء توظيف الإعلام كأداة تفكيك، مهمّته إضعاف شرعية السلطة سياسيًا ومعنويًا، ليفسح المجال أمام نموذج يخدم الأجندات الخارجية بشكل أفضل.

وفي هذا السياق، تلعب قناة الجزيرة دورًا يمكن تسميته بـ"التقويض المنهجي"، لا يقتصر على رصد الأداء الأمني والسياسي، بل يتعدّاه إلى صناعة خطاب يعيد تشكيل الوعي الجمعي الفلسطيني: خطاب يصوّر السلطة كطرف متواطئ أو حتى كـ"عدو داخلي"، دون أن يتوقف لحظة أمام إكراهات الواقع الأمني والمعيشي، أو التعقيدات الناجمة عن اتفاقات دولية، بعضها فرضه الواقع وبعضها فُرض على الواقع. يغيب عن هذا الخطاب أن المشكلة الجوهرية ليست في الالتزامات الفلسطينية، بل في تنصّل الاحتلال منها، وهو ما عطّل المسار التفاوضي، وأجهض حل الدولتين.

الإعلام ليس مطالبًا بالحياد في قضايا الشعوب المستضعفة، لكن ما لا يُغتفر هو التلاعب بالوقائع والسكوت عن الحقائق. فبينما تتغافل الجزيرة عن الانتهاكات الموثقة التي تمارسها حماس في غزة، وآخرها مقتل الشاب عدي ربيع لمجرد مشاركته في مظاهرة، لا تفوّت القناة أي فرصة لتسلط الضوء على كل خطأ أو حتى تجاوز فردي لمن يمثل السلطة، مع خط تحريري يميل إلى التحريض أكثر من التفسير، وإلى الإدانة أكثر من التحليل وهو ما وقع في حادثة مقتل الصحفية شذى الصباغ في مخيم جنين.

ولا تكاد القناة تذكر شيئًا عن التضييقات اليومية التي تمارسها إسرائيل بحق السلطة، من اعتقالات لكوادرها إلى احتجاز أموالها وصولًا إلى تجاهل دورها الدبلوماسي على الساحة الدولية، وكأن المطلوب هو مسح هذا الدور بالكامل، وتصويرها كجسم غريب لا يمت للقضية بصلة، رغم أنها شكّلت ركيزة من ركائز النضال السياسي الفلسطيني لعقود طويلة.

وتزداد المفارقة غرابة حين نتذكر الازدواجية الانتقائية في تعاطي القناة مع مواقف السلطة. فعلى سبيل المثال زيارة الرئيس محمود عباس إلى برلين عام 2022، وتصريحه الشجاع عن ارتكاب إسرائيل لخمسين "هولوكوست" ضد الفلسطينيين، مرّت مرور الكرام في تغطيات الجزيرة، رغم أنها أثارت عاصفة من الانتقادات الغربية والإسرائيلية. وكذلك الأمر بالنسبة لخطوة أبو مازن في التوجّه إلى المحكمة الجنائية الدولية بشكوى رسمية ضد الاحتلال، وهي خطوة جريئة تجاهلتها القناة التي طالما رفعت شعار نصرة القضية.

أما السردية التي تروّجها الجزيرة عن السلطة، فهي – عن قصد أو غير قصد – تلتقي بشكل مريب مع الخطاب الإسرائيلي، الذي يعمل منذ سنوات على نزع الشرعية عن القيادة الفلسطينية، وتصويرها كطرف غير مؤهل لتمثيل شعبه أو الدخول في مفاوضات. وعندما يلتقي خطاب "الجزيرة" مع رواية إعلام الاحتلال، لا بد أن نتساءل: هل هو مجرد تقاطع مصالح أم توافق أجندات؟

لا نقول هنا إن السلطة فوق النقد، ولا ينبغي لأحد أن يرفعها فوق المساءلة، لكن تحويل هذا النقد إلى حالة شيطنة ممنهجة لا يخدم سوى تعميق الانقسام، ونسف ما تبقى من بنية النظام السياسي الفلسطيني، في وقت نحن فيه بأمس الحاجة إلى الحد الأدنى من التماسك الداخلي.