قبل التظاهرات وبعدها

اللحمة الوطنية العراقية تتجسد يوميا في التظاهرات.

في العام 2007 وبعد فوز المنتخب الوطني ببطولة امم اسيا، كتب كثيرون وتحدثوا عن ان المنتخب وحّد العراقيين! ومعروف للجميع الظروف التي عشناها وقتذاك، والاعمال الارهابية التي البسها الذين وقفوا وراءها، قناع الطائفية، وما رافق ذلك من مشاعر قاسية عبّر عنها البعض بالقول ان العراق خرج ولم يعد، وان تقسيمه بات امرا واقعا ولا يحتاج الاّ الاعلان الرسمي. حينذاك، كتبت بان فوز المنتخب كشف للعالم حقيقة العراقيين ومعدنهم الوطني الاصيل، ولم يوحّدهم، لانهم لم يكونوا متفرقين اصلا، بل اريد لهم ان يتفرقوا، وهو ما لم يتحقق.

بعد اندلاع التظاهرات الاخيرة، والطروحات الوطنية التي رافقتها، وابتعاد الشباب عن الثقافة الطائفية والجهوية، وتطلعهم لمستقبل سياسي عراقي بعيدا عن الممارسات المشينة التي رافقت العملية السياسية بعد العام 2003، كتب كثيرون وقالوا ايضا بان هؤلاء الشباب اعادوا الروح الوطنية للعراق، وانهم فاجأوا الجميع بهذه الثقافة المتقدمة. في الحقيقة، ان الشباب لم يأتوا بجديد، وانما اكدوا الحقيقة التي عمل الاعلام المسيس، في الداخل والخارج، على تغييبها، وهي وطنية العراقيين المتأصلة. فالثقافة الوطنية في اي شعب، عندما تتحول الى سلوك وممارسة يومية، وتتكرس عبر حقب زمنية طويلة، يستحيل ازالتها او اضعافها. والعراقي يؤمن بالتعدد الثقافي بالفطرة، كونه يعيش هذا الواقع ويتعامل معه يوميا، ويجده حالة طبيعية. فالطفل في محافظة ميسان، مثلا، مدنيا كان او قرويا، يتفتح وعيه على التعامل اليومي مع اقرانه من المسلمين بمذهبيهم والمسيحيين والصابئة، وكذلك اليهود قبل هجرتهم للاسباب المعروفة، اذ يجدهم معه منذ صفوف الدراسة الاولى وفي ساحات اللعب واللهو، ولم يشعر باختلافهم عنه، لأنه ورث هذا عن آبائه واجداده، حتى باتت هذه الصورة من بديهيات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه. ويستمر هذا في الجيش والمعمل والسوق والمقهى، بعد ان يكبر، فضلا عن الزقاق والمحلة.

من هنا، فان هذه الثقافة، باتت في جينات العراقيين ومن الصعب استئصالها او اضعافها بحملة اعلامية او خطاب سياسي عابر، بل ان الظروف الصعبة التي مرت عليهم، بمختلف انتماءاتهم، اعطتهم مناعة اكثر، ضد محاولات اللعب على وتر الاختلاف الديني او المذهبي، الامر الذي جعل المحاولة الاخيرة التي جرت بعد الاحتلال الاميركي لجرهم الى حرب اهلية تمهد لتقسيم العراق على غرار يوغسلافيا وغيرها، فشلت تماما، وان تركت جراحا مؤلمة في جسدهم الواحد، والذي تتجلى وحدته اليوم في مشهد التظاهر، الذي يجمع العراقيين بمختلف طيفهم، في ميادين المحافظات، وباتجاه هدف واحد، الا وهو اصلاح هذا الواقع السياسي الذي اوصل البلاد الى ما هي عليه. بمعنى ان الشعور الوطني المتأصل، هو الاب الشرعي لهذه الروحية الشبابية التي تشربها الابناء عن الآباء والاجداد، وانها الصورة الحقيقية الممتدة كامتداد دجلة والفرات في عمق الزمن.

في ملعب كرة القدم، يهتف العراقيون لفريقهم الوطني، من دون ان يعرف احدهم ديانة او مذهب الاخر. وفي الدوائر الرسمية وكل مرافق الحياة الاخرى التي تجمعهم يوميا، يعملون معا، ويأكلون ويمرحون، ويضحكون ويبكون في مناسباتهم المشتركة. ترى من اولئك الذين كانوا يتربصون بهم في الطرقات ليقتلونهم؟!

لقد اجاب العراقيون على تلك الاسئلة بالفعل لا بالقول، ولكن البعض لا يريد ان يرى حتى اليوم!