"قراءات صينية" تواصل إضاءة تحولات الصين

البروفيسور لي بيي لين يحلل التحولات الصينية من خلال دراسة تطبيقية على عدد 508 شركات في عشر مدن رئيسة في الصين.
تحليل العلاقة بين فئات الدخل المتوسط، والطبقة الوسطى في الصين مقارنة بعدد من الدول الأخرى
الأكاديمي الصيني توقف عند القلاع الصناعية المهمة في صين ما قبل الإصلاح والانفتاح

"الخروج من النفق.... تحولات البنية الاجتماعية في الصين" أحد أهم الكتب التي تتناول جهود الصين لمواجهة تحولات البنية الاجتماعية منذ تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978. مؤلف الكتاب هو البروفيسور لي بيي لين الأكاديمي الصيني المعروف والحاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون بفرنسا، والذي صدر له العديد من المؤلفات في مجال الدراسات الاجتماعية وشغل العديد من المناصب في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية والهيئات المعنية بالصين من بينها. ومن أهم أعماله: "تحليل التكلفة الاجتماعية للمؤسسات المملوكة للدولة"، "تحليلات وتقديرات حول الأوضاع الاجتماعية في الصين"، "علم الاجتماع والمجتمع الصيني"، "مختارات من دراسات لي بيي لين" و"التحولات الاجتماعية والتجربة الصينية" و"الإصلاح الاجتماعي والنظم الاجتماعية" وغيرها من الأعمال التي صدرت لها أكثر من طبعة داخل الصين وترجمت إلى أكثر من لغة أجنبية.
الكتاب الذي صدر أخيرا ضمن إصدارات سلسلة "قراءات صينية" عن دار صفصافة للنشر ترجمه كل من د. دينا تهامي المدرس بكلية الآداب جامعة بنها، والمترجمة منة الله صالح، وإشراف ومراجعة د.حسانين فهمي حسين الأستاذ المساعد جامعة عين شمس والمشرف على سلسلة "قراءات صينية". وقد اشتمل على عشرة أبواب رئيسة، يتكون كل باب منها من عدد من الفصول لتغطية عدد كبير من الموضوعات التي تتعلق بمشكلات تحولات البنية الاجتماعية في الصين. لذا فإنه يشكل إضافة مهمة للمكتبة العربية لأهمية الموضوعات التي تناولها بما في ذلك تحولات البنية الاجتماعية في الصين المعاصرة، بعد مضي أكثر من أربعين عامًا على تطبيق الصين لسياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، وما ترتب عليها من تغيرات كبيرة شهدها المجتمع الصيني بدءًا من تحول المجتمع الصيني من مجتمع اقتصادي يتمتع باكتفاء ذاتي أو شبه ذاتي لمنتجاته إلي مجتمع اقتصاد السلع المخططة، والتحول من مجتمع زراعي إلي مجتمع صناعي، والتحول من مجتمع ريفي إلي مجتمع حضري، ومن مجتمع مغلق وشبه مغلق لمجتمع متحرر ومنفتح وغيرها من التحولات التي طرأت علي المجتمع الصيني خلال السنوات الأخيرة. وتحليل التكلفة الاجتماعية للشـركات المملوكة للـدولة.

الحراك الاجتماعي في الصين أصبح سريعًا في العقود الأخيرة، كما أن الوضع الاقتصادي لأفراد المجتمع قد تغير بشكل كبير، وظهر تباعد بين الوضع الاقتصادي والوضع الاجتماعي

حلل البروفيسور لي بيي لين هذه التحولات من خلال دراسة تطبيقية على عدد 508 شركات في عشر مدن رئيسة في الصين تمثل أهم وأكبر المدن الصناعية بالصين، ودراسة المكانة الاجتماعية للعمالة المهاجرة من الريف إلى الحضر وغيرها من القضايا التي تناولها الكتاب بالدراسة والتحليل. حيث أكد بالإضافة على الدور الكبير والمهم لتحولات البنية الاجتماعية هذه اليد الخفية في توزيع الموارد والتنمية الاقتصادية، ورأى أن التحول أصبح قوة كبيرة غير مرئية في مرحلة تحول المجتمعات. بل ويعد طريقة مميزة لتحديد اتجاه التنمية الاجتماعية وتوزيع الموارد، ويتعاظم دور هذه القوة الخفية يومًا بعد يوم في ظل التحولات المستمرة التي يشهدها المجتمع. وخلص إلى أن الدراسة العميقة لتحولات البنية الاجتماعية الصينية، وتناول مختلف القضايا والخلافات والصراعات التي تنشأ خلال عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال تحولات البنية الاجتماعية، سيساعد في تقديم زاوية بحثية جديدة والارتقاء بالوعي والتغلب على العشوائية وتجنب الكثير من الأخطاء المحتملة، بالإضافة إلى أهمية ذلك البالغة في الفهم العميق لتأسيس نظرية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية التي طرحها الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ، وتوجيه مسار الإصلاح والانفتاح والحداثة الصينية. 
تناول لين مشكلة البطالة وأهم الفترات التي عاني خلالها المجتمع الصيني من شبح البطالة على مستوى البلاد، والحلول التي قدمتها الدولة للخروج من هذا النفق. وأشار إلى ذلك موضحا "بنهاية عام 1968، تم إطلاق حملة "الانتقال إلى العيش في المناطق الريفية والمناطق النائية" للشباب والمثقفين في المدن والتي استمرت لمدة سبع سنوات على مستوى الصين، تمثلت الأهداف السياسية المعلنة من تلك الحملة في "الإصلاح" و"تقليص الاختلافات الرئيسة الثلاثة بين (المناطق الحضرية والريفية، العمال والمزارعين، إصلاح العقليات)"، لكن في الحقيقة هدفت هذه الحملة بشكل مباشر إلى إصلاح مشكلة البطالة. 
وخلال هذه الفترة انتقل أكثر من 16 مليون شاب مثقف ومتعلم من المدن إلى "المناطق الريفية والمناطق النائية"، ليستقروا ويستوطنوا القرى، بزيادة سنوية أكثر من مليون شاب. وصلت معدلات البطالة إلى ذروتها الرابعة خلال الفترة ما بين عام 1978 حتى عام 1980. حيث بدأ الاقتصاد الصيني في استعادة عافيته وفي الانتعاش من جديد بعد سنوات "الثورة الثقافية الكبرى"، إلا أنه على الرغم من إعادة فتح الجامعات واستئناف الدراسة والتسجيل بها، وعلى الرغم من استئناف العمل بالمصانع وقبول طلبات التوظيف، حيث تم استيعاب جزء من القوى العاملة، في حين تم ترحيل توظيف الجزء الآخر من القوى العاملة إلى وقت لاحق، إلا أن عودة الشباب المثقفين من المناطق الريفية إلى المدن مرة أخرى، قد تسببت في تفاقم مشكلة البطالة في المناطق الحضرية. بلغ معدل البطالة السنوي المسجل في المناطق الحضرية في هذه السنوات الثلاث نحو 5,5%، كما بلغ عدد العاطلين عن العمل في المناطق الحضرية من 5,3 مليون إلى 5,4 مليون عاطل تقريبًا سنويًّا.
توقف لين عند القلاع الصناعية المهمة في صين ما قبل الإصلاح والانفتاح، وما حدث من تسريح لآلاف العمال من خلال أنماط مختلفة للتسريح، وقال: "يمكن تقسيم أنماط وأشكال التسريح عن العمل بشكل عام في ظل اقتصاد السوق إلى "مبادرة العمل الحر الإيجابي" و"العمل الحر السلبي" و"شراء حقوق العمال المسرحين" إلى غيرها من الأنماط.
أولًا: تشير "مبادرة العمل الحر الإيجابي" (التوظيف الذاتي الإيجابي) إلى الموظفين والعمال الذين بادروا بأنفسهم بمغادرة الشركة (جهة العمل) واقتحام ميادين العمل الحر للبحث عن فرصة عمل جديدة، ولكنهم على الجانب الآخر لم يقوموا بإجراءات فسخ عقد العمل المبرم مع الشركة، كما أنهم ما زالوا مدرجين في كُشوفات أسماء العاملين بالشركة.

ثانيًا: يشير "العمل الحر السلبي" إلى حالة تحول الشركة إلى تحقيق خسائر مالية فادحة، وهو ما يؤدي إلى توقف الشركة أو المنشأة عن العمل بشكل تام أو بشكل جزئي، حتى إنها تعجز عن صرف أجور العاملين بها وإعانات المعيشة، في هذه الحالة يتوجب على العمال والموظفين البحث عن وظائف أخرى بأنفسهم. فعلى سبيل المثال، قامت كل من شركة "ماكينات جيانخوا" وشركة "خوا أن للماكينات" وشركة "خه بينغ للآلات والمعدات"، في مدينة "تشي تشي خا آر" بمقاطعة "خه لونغ جيانغ"، والتي يزيد عدد العاملين بها على أكثر من عشرة آلاف عامل وموظف وفني، بتسريح نحو 3000 عامل سنويًّا، يُجبر أكثر من 50% منهم على مساعدة أنفسهم والعمل لحسابهم الخاص. على الجانب الآخر، توجد بعض الشركات التي توقفت عن الإنتاج بشكل كامل وأغلفت أبوابها بالفعل، ولكنها لم تنفذ الإجراءات القانونية المتعلقة بتصفية الأعمال وإعلان الإفلاس، هنا يفقد العمال وظائفهم دون أن يحصلوا على أي تعويضات مالية مستحقة.
ثالثًا: شراء حقوق العمال المسرحين" فتشير إلى دفع مبلغ التعويض الذي يستحقه العامل المسرح في صورة مكافأة نهاية الخدمة، وهو يصرف مرة واحدة وفقًا لطول مدة الخدمة الفعلية التي قضاها العامل في العمل، ووفقًا لإجمالي الأجر الأصلي الذي يستحقه العامل شهريًّا.
وتطرق لين من خلال عدد من الدراسات الاستقصائية أحوال العمال المهاجرين في المجتمعات الحضرية الجديدة التي هاجروا إليها بحثا عن فرص عمل أفضل. حيث أكدت هذه الدراسة الاستقصائية الخاصة بالعمال المهاجرين، أن المزارعين وصغار الفلاحين خلال حراكهم الاجتماعي "بعيدًا عن أرضهم وموطنهم الأصلي"، يكون مصدر معلوماتهم، والطريقة التي يحصلون بها على العمل، وأسلوب عملهم داخل المدينة، بالإضافة إلى طريقة تفاعلهم وتواصلهم في المناطق الحضرية أكثر اعتمادًا على الشبكات الاجتماعية القائمة على الروابط الأسرية والعرق بين أبناء الموطن الواحد كحلقة وصل. علاوة على ذلك، فإن هذه الطريقة من التواصل الاجتماعي هي اختيار عقلاني للغاية بالنسبة للموارد الاجتماعية المتاحة لهم، كما أنها تتوافق تمامًا مع أهدافهم المتمثلة في الحصول على دخل نقدي أعلى وعلى فرصة حياة أكثر راحة وعلى مستوى معيشي أفضل".
وأظهرت الدراسات الاستقصائية الأخرى للعمال المهاجرين في مقاطعتي قوانغدونغ، وتشيجيانغ اللتين تعتمدان بدرجة كبيرة على اقتصاد السوق، فضلًا عن الدراسات الوطنية الاستقصائية نتائج مماثلة أيضًا، حتى إنه في هونغ كونغ والشركات الصينية في الخارج، قد ظهرت أيضًا ظاهرة" أسرية الشركات" (أي توظيف الأقارب والأهل وأبناء الموطن الواحد). وهنا يكون افتراضيًّا أن اعتماد العمال المهاجرين على هذا النحو يُشبه نفس فكرة تقليص التكاليف التنظيمية ومراقبة تكاليف المشاريع في مؤسسات البلدات والقرى، ولكن الفكرة هنا تتمثل في توفير تكاليف التشغيل وتكاليف المعاملات، على الرغم من أن هذه الفكرة قد تكون غير منطقية وغير غريزية. ومن المؤسف، أن هذه الدراسة الاستقصائية لم تُحقق في تكاليف تدفق العمال المهاجرين، وبالتالي لا توجد بيانات إحصائية تؤكد ما إذا كانت تكاليف تدفق العمال المهاجرين الذين يعتمدون على روابط صلة القرابة والعرق بين أبناء الموطن الواحد، أعلى أم أقل من تكاليف تدفق العمال المهاجرين الذين لا يعتمدون على تلك الروابط. وعلاوة على ذلك، فإننا لا نزال لا نعرف ما إذا كان هذا الاعتماد المرتبط بصلة القرابة والعرق والموطن الأصلي، هو سمة اجتماعية وثقافية محلية، أم سمة اجتماعية وثقافية صينية "تقريبًا هو سمة اجتماعية وثقافية شرقية أيضًا"، ولكن بمجرد التطرق إلى النموذج الثقافي، يصبح ذلك إحدى الأطروحات الفلسفية للغاية، وهو ما لا يستطيع التحليل الإحصائي العام الإشارة إليه بوضوح. 
وحول العلاقة بين فئات الدخل المتوسط، والطبقة الوسطى في الصين مقارنة بعدد من الدول الأخرى، كشف لين "يبدو أن الوضع في الصين وكأنه استثناء لهذه القاعدة العامة. وفقًا للدراسات الشاملة للأوضاع الاجتماعية الصينية التي أجراها معهد علم الاجتماع التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية أنه في عام 2015 وصلت نسبة السكان الصينيين الذين أكدوا على انتمائهم إلى الطبقة الوسطى 37.38٪ فقط، ونسبة الطبقة الوسطى العليا 3.95٪ وهناك 4.22% فقط من 0.27٪ من الطبقة العليا، ووصلت نسبة الطبقة الوسطى السفلى إلى 30.54% والطبقة الدنيا إلى 26.87% بإجمالي 58.41% للطبقة الدنيا. 
هذه الحالة الاستثنائية لدى الصين قد تكون مرتبطة بثلاثة أسباب. أول هذه الأسباب هو أن الحراك الاجتماعي في الصين أصبح سريعًا في العقود الأخيرة، كما أن الوضع الاقتصادي لأفراد المجتمع قد تغير بشكل كبير، وظهر تباعد بين الوضع الاقتصادي والوضع الاجتماعي، فهناك من ارتفع وضعهم الاقتصادي سريعًا إلا أنهم يتمتعون بمركز اجتماعي منخفض. وهناك من يتمتع بمكانة اجتماعية أعلى من المكانة الاقتصادية، ثانيًا: تقديم وسائل الإعلام المنتجات الاستهلاكية الفاخرة للأثرياء جعل السكان عمومًا يبالغون في تقدير مستوى المعيشة للطبقة الوسطى عمومًا، ثالثًا: مبدأ "الإخفاء" في التقاليد الثقافية الصينية، جعل البعض يتعمدون إخفاء ثرائهم".