قراءة في الراهن الثقافي المصري

حكايات مبتذلة تتحدث عن علاقات شاذة أو هوس ديني أو فوضى بالنفس وكأنهم يكتبون لأقوام لم تعرف الحضارة بعد.
لكل واحد من محترفي الحواديت القصصية مريدون وأنصار وحواريون وصاروا هم كهنة وسدنة معبد الحكي
الشخص الديماجوجي يهدف بالضرورة إلى تضليل الآخرين

يؤكد الكاتب الفرنسي بيير أندريه ناجييف على أن الشخص الديماجوجي يهدف بالضرورة إلى تضليل الآخرين، وهذا التضليل هو أحد تقنيات الراديكالية المتطرفة التي لا تعترف بالآخر، وهذا الشخص العنيف فكريا لا يعبأ بأفكار أنصاره بقدر ما هو يسعى إلى إقصائهم من اتخاذ القرار، ومن ثم إملاء ما يراه حسب هواه من معتقدات وآراء وأفكار تقضي في النهاية إلى تحقيق مصالحه عن طريق أشخاص آخرين يبدون فريسة سهلة القنص. 
ولعل نجاح هؤلاء في المجتمعات الفقيرة ثقافيا مفاده أن كافة أحلام وطموحات الشباب باتت مؤجلة إما لظروف اقتصادية من ناحية، أو قلة الكفاءة المهنية وعدم امتلاك أدوات العصر الراهن من ناحية أخرى، مما يدفع هؤلاء الشباب للتغريد خارج السرب بعيدا عن قواعد المجتمع الثقافية لا الاجتماعية فحسب، ويصبح بذلك التأجيل الاضطراري رهن الافتراس القصدي للدوجمائي المتحفز للسيطرة على الأذهان والعواطف بقصد تسييد حالات من التغييب.
وفي حياتنا المعاصرة، ما أكثر هؤلاء الذين يدغدغون أسماع الشباب والصبية وأذهانهم أيضا بمزيد من العوالم الافتراضية التي من شأنها تقوض بنيان الأوطان وليس الأشخاص فحسب، وهؤلاء نجدهم يملأون الكيانات والمنصات الافتراضية الإلكترونية من خلال عبارات تدعو أحيانا إلى السخرية وكثيرا ما نجدهم يروجون للفوضى العقلية أو بالأحرى الدوغمائية عبر روايات تحمل أسماءهم، وهم بالضرورة يحتاجون إلى معالج نفسي أو إلى معلم لغوي يتقنهم حرفة الكتابة ومهاراتها.

انتهزت هوس الشباب في استخدام واستعمال التكنولوجيا فقمت بكتابة الدولة الفاطمية على شبكة المعلومات الدولية (جوجل) من أجل أن يحرصوا على النهل من المعرفة لكنهم أكثر حرصا على تناول المعلومات السريعة القصيرة بصورة مبتورة بغير تأويل

ففي السنوات الأخيرة من عمر مصر المحروسة تحديدا عقب الانتفاضة الشعبية المعروفة إعلاميا وسياسيا بثورة الخامس والعشرين من يناير، ظهرت أصوات شابة كثيرة، بل كثيرة جدا احترفت مهنة الكتابة القصصية لدرجة أنني حينما أدخل أي مكتبة عظيمة أجد أغلفة هذه الحكايات البليدة تملأ الأركان، بل صار لكل واحد من محترفي الحواديت القصصية مريدون وأنصار وحواريون وصاروا هم كهنة وسدنة معبد الحكي.
ومن جملة الأعاجيب في عالم هؤلاء أنهم أصبحوا يدشنون ورشا للكتابة، وأنا حتى هذه اللحظة وبرغم احتراف الكتابة الصحافية والأدبية منذ شتاء 2003 لا أعرف ما المقصود بالورشة الكتابية سوى أن مجموعة أنفار من البشر يقيمون حفلة زار شعبية من أجل كتابة سطر يصلح جملة في رواية أو مسرحية. وربما أكون قد كبرت وطعنت في العمر لأنني أرفض هذه الروايات جميعها وأعترف بأنني قرأتها وأتابع جديدها لا لمتعة قراءتها، بل لأعرف البوصلة التي سنتجه إليها من خلال الأجيال القادمة في مصر.
ومجمل موضوعات هذه الكتابات الافتراضية الخيالية لا تخرج عن أفلاك ثلاثة؛ الجنس والشك في العقيدة والأشباح، نعم الأشباح وحكايات البعبع المخيفة والأعضاء الجسدية المتطايرة والمتناثرة في الهواء. انتشرت هذه الكتابات في الوقت الذي تعاني مصر من الإسهامات الحقيقية في مجلات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الإجرائية، والعجز الواضح المخيف في مجال الترجمة وقت أن كانت مصر هي أكبر مترجم للحضارات والثقافات الأجنبية. فكلما شاهدت الكتب الأجنبية عن الفلك والظواهر الاقتصادية المعاصرة والاستشرافية على موقع الكتب العالمي أمازون تحسرت عن واقع الترجمة العربية، وكلما بحثت عن موضوع البرمجة اللغوية العصبية وجدت آلاف الكتب والمقالات والتقارير المكتوبة بالإنجليزية ووقتما أرجع للمكتبة العربية لا أجد سوى الكتاب اليتيم للدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله وبعض الكتابات التي تمشي على استحياء. 
أرجو أن يستفيق الشباب على حالتهم الراهنة كما استفاقوا على وهم كليات القمة التي لم تعد قمية لعدم راهنيتها بواقع معاش، ويدركوا أن الأدب ضروري في حياة الإنسان، لكنني أعني وأقصد أدب نجيب محفوظ ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم وطه حسين والمازني وأحمد أمين وأنيس منصور ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس ويحيى حقي وصالح مرسي وغيرهم ممن يرقى بالعقل ويهذب النفس لا تلك الحكايات المبتذلة التي تتحدث عن علاقات شاذة أو هوس ديني أو فوضى بالنفس وكأنهم يكتبون لأقوام لم تعرف الحضارة بعد.
أما الشعر، فحدث ولا حرج، مجموعة من مرتزقة الشعر والكل أصبح يهرب من اللغة الفصيحة مهرولين إلى عامية ليست كعامية صلاح جاهين وفؤاد حداد بل عامية مبتذلة سخيفة وباهتة تتناول حكايات الصبية وهم يلهون في الحارة لا أكثر. 

أنا أظن أن هذه السطور تشبه المواعظ والنصائح وأنا لا أهرب من هذه الحقيقة لأنني توجعت كثيرا حينما طلبت من طلابي أن يختاروا بعض الكتب ويقوموا بكتابة تعليق قصير في بضعة سطور عن اختياراتهم الثقافية، فكانت الفاجعة والمأساة والكارثة الثقافية، رأيت عشرات الكتابات النقدية (تعليقات بسيطة) تتناول روايات تتناسب مع سمات الثقافة السطحية وأسماء لروايات يعاقب عليها القانون ويتتبعها بوليس الآداب بسبب الكلمات الخادشة للحياء، أما الروايات نفسها فهي ثمة مذكرات سريعة لشخصيات مريضة نفسية.
الحقيقة المرة أننا نواجه غواية من نوع جديد، غواية داخلية أو بالأحرى محلية الصنع، مجموعة من الهواة غير المحترفين في مجال الكتابة وجدوا أنفسهم وسط مجموعات كبيرة من الشباب السطحي ذوي الثقافات التي لا تتجاوز اليوتيوب ومواقف التواصل الاجتماعي، فكانوا فريسة سهلة الاقتناص لهم وربما أدرك الناشرون هذا الهوس الجنسي والولع الديني المرتبط بالشك في العقيدة والهروب النفسي لدى القراء من واقعهم الاجتماعي الحقيقي فتحققت الصفقة أقصد الجريمة الكاملة. 
وثمة تحولات أخرى ينبغي على الرائي رصدها، هذه التحولات تتمثل في العزوف القصدي لدى الشباب عن قراءة التاريخ بوجه عام، وتاريخهم الوطني بصورة خاصة، وأذكر أنه منذ أيام قليلة جلست وسط مجموعة من الشباب الجامعي الذين أوشكوا على التخرج في جامعاتهم من تخصصات متباينة، فلا أفطن لماذا اجتررنا الحديث عن بعض الحقب التاريخية لاسيما فترة الحكم الفاطمي في مصر، واكتشفت أن كل هؤلاء الشباب يستمعون إلى بعض المعلومات التي سردتها وهي بالطبع معلومات مدرسية غير أكاديمية متخصصة لكنهم لا يعرفون عنها شيئا، لدرجة أنني انتهزت هوس الشباب في استخدام واستعمال التكنولوجيا فقمت بكتابة الدولة الفاطمية على شبكة المعلومات الدولية (جوجل) من أجل أن يحرصوا على النهل من المعرفة لكنهم أكثر حرصا على تناول المعلومات السريعة القصيرة بصورة مبتورة بغير تأويل.