قراءة في رواية 'كان وأخواتها': منطق القراءة في شكل الكتابة

رواية عبدالقادر الشاوي تطرح أسئلة كثيرة سواء في ما يتعلق بتمفصل الذاتي والموضوعي، أو في ما يخص العلاقة بين السيرة الذاتية والشكل الروائي. أو في خلخلتها للاجناس الأدبية.
المنطق الذي يحكم بنية النص هو منطق التكسير الزمني وتقاطع الاحداث والوقائع

حاولت في هذه القراءة للرواية أن أبتعد ما أمكن عن التناول المباشر للرواية كما لو كانت خطابا إيديولوجيا، أو نقدا سياسيا للاستبداد السياسي. صحيح بأن الرواية تتناول تجربة الاعتقال السياسي التي طالت مجموعة من الافراد والمنظمات السياسية اليسارية في مغرب السبعينات، أي ما يسمى بمرحلة الجمر والرصاص، بشكل عنيف وظالم ومتناقض كليا مع قيم ومبادئ حقوق الانسان. خاصة وأن الاعتقال مس طاقات شبابية من المثقفين والكتاب والسياسيين.
 حيث كان ذنبهم الوحيد أنهم فكروا بطريقة أخرى وفق رؤية متناقضة لكل ماهو سائد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. 
لكن الرواية كعمل إبداعي لا ينبغي أن تختزل في الأيديولوجي بشكل مباشر وتقريري مما يفقدها قدرتها الفنية والجمالية في إعادة صياغة وبناء وتركيب واقع تجربة الاعتقال السياسي بكل ملابساتها وظروفها المؤلمة والقاسية. 
1-    ميثاق القراءة ومسألة التجنيس
أسئلة كثيرة تطرحها "كان وأخواتها" سواء في ما يتعلق بتمفصل الذاتي والموضوعي، أو في ما يخص العلاقة بين السيرة الذاتية والشكل الروائي. أو في خلخلتها للاجناس الأدبية بين الشعري والسير ذاتي والروائي.
 إنه نوع من الشغب الفني تؤطره رؤية مغايرة للجاهز الإبداعي والنقدي، وعلى حد النقد والحوار تنتج "كان وأخواتها" علاقاتها الأدبية، كما تؤسس لقراءتها كميتانقد. وذلك انطلاقا من محاورتها لذاتها ككتابة إبداعية، وهي بذلك تقحم القراءة في هاجس مساءلة أدواتها ومفاهيمها، من خلال وعي بلورته الدراسات الحديثة في مجال اللغة والكتابة "أعني ممارسة تهدف الى خلخلة الاجناس الأدبية: في النص لا نتعرف على شكل الرواية أو شكل الشعر أو شكل المحاولة النقدية".

الكاتب حين يكتب لا يتعامل مباشرة مع الواقعي، بل مع ما يرتسم في ذهنه أو في مخيلته من صور تخص هذا الواقع وتمثله وتعنيه

إذا كان فليب لوجون يحدد طبيعة النص انطلاقا من مواثيق القراءة، فإن الكاتب اختار الجنس الذي يندرج فيه إبداعه. لكن إذا كانت "كان وأخواتها" تحمل على غلافها اسم رواية، فإن قراءتها تبين لنا أن الامر يتعلق بكتابة يختبئ في طياتها وعي إبداعي ونقدي يقلب اطمئنان القارئ للمعايير النقدية التقليدية، وذلك انطلاقا من مفهوم التجريب الذي تركبه الكتابة عند الكاتب. 
فمن الصفحة الأولى يلاحظ القارئ، من خلال كلام العروي، أن الرواية تنقض ميثاقها، فتدخل القارئ في هواجس أسئلتها ككتابة. فهل هي سيرة ذاتية أم رواية؟
أثناء القراءة نتعرف على أماكن، أسماء، مدن وأشخاص واقعيون. متن الحكي معروف على الأقل في الذاكرة. كما أن النص تخترقه قصائد شعرية وتفاصيل شاعرية رغم عنفها وقسوتها. "إنه نص معجون، أساسا، بطينة الواقع وطينة الذات وطينة اللغة، طينة مركبة وملبدة وساخنة ولزجة، أعطت في النهاية وبعد معاناة ومخاض، هذا التشكيل الادبي الفسيفسائي الممتع والمثير الذي يحمل عنوان كان وأخواتها."2 إنها كتابة يصعب تصنيفها، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عن سر تسمية الكاتب لنصه بـ"رواية". 


'كان وأخواتها' سيرة روائية تصدم أفق انتظار المتلقي النقدي، فهي تتجاوز وتخرق قواعد هذا الجنس الفني من الكتابة الأدبية. 
 

يمكن القول إنها رواية إذا تعاملنا معها وفق مفاهيم النقد الحديث، الذي يعتبر الرواية كتابة مفتوحة. إنها رواية إذا نظرنا إليها من المسافة الفنية والجمالية. هذا يعني أنها رواية في قدرة مستوى الخطاب على استيعاب مستوى القصة، وعدم السقوط في الكتابة التسجيلية، والتقريرية المباشرة.
لقد سميت رواية لانها أكثر من رواية "يعني أننا أمام خلخلة للاجناس، فمنها ما يحاول شق طرق جديدة. والجديد يتميز بقدرته على إحداث نوع من الصدمة، من حيث إنه يرفض تقليدا لم يعد إلا اجترارا وانخراطا في التقليد الادبي"3 .
 إن ذلك الالتباس الحاصل حول مسألة تصنيف "كان وأخواتها"، هو ما شغل النقاد، حيث حاول بعضهم تقديم مسوغات لاختيار الكاتب وصم عمله الإبداعي بوصمة الرواية. "كيف يستقيم هنا مصطلح رواية الذي يحيل الى كون تخييلي استيهامي، إزاء هذا الكون الواقعي الملموس الذي يتدفق حارا وطازجا عبر سطور النص، لافحا بهجيره وجه القارئ وآخذا بأنفاسه وخناقه إنه في رأيي مكر المؤلف ومراوغته واصراره على تشويش قواعد اللعبة الأدبية."4 إنه مكر وعي نقدي أطرته الأبحاث اللسانية والبنيوية والسردية.
وأثناء قراءتنا لمجموعة من الروايات المغربية والعربية لاحظنا بأن الرواية العربية عموما لا تستطيع أن تكون نصا روائيا إلا من خلال اعتمادها بشكل أو بآخر على مكون السيرة الذاتية. وقد سبق أن ناقشنا هذه الملاحظة في دراسة سابقة5..
2-    القراءة وشكل الكتابة
يستخدم الكاتب أدوات لغوية تجعلنا نعتقد أن هناك الراوي والشخصية الرئيسية. ثم فجأة يغدو المروي عنه راويا، وهو في ذلك يحاول أن يجعل السرد يتكلم عوض تدخله المباشر الذي سيضعف فنيا عمله. 
يطل الراوي علينا بالضمائر التالية: هو، نحن، أنا، أنت. فيبدو الراوي ملتبسا، مترددا في شكل حكيه. هو الواحد المتعدد، القائم على النقد والاختلاف.ف(ش) الطفل ليس هو (ش) الذي تعرض للاختطاف ومورس في حقه أبشع أشكال التعذيب هو ومن معه. كما أنه ليس (ش) الذي يحن في راهنية السرد الى قريته وطفولته. هذا الواحد المتعدد، الغامض، الملتبس، سرعان ما يبدو عنصرا فنيا، منسجما مع شكل الكتابة الذي اختاره (ش). الكاتب مهووس بخلق مسافة حيادية وموضوعية بينه وبين الراوي والشخصية، من خلال لعبة الضمائر. يتموج السرد بين الذاتي والموضوعي، وذلك هو شأن الرؤية مع كما يحددها النقد الحديث "إن الرؤية مع أو العلاقة المتساوية بين الراوي والشخصية هي التي جعلها توماشفسكي تحت عنوان" السرد الذاتي" والواقع أن الراوي يكون مصاحبا لشخصيات يتبادل معها المعرفة بمسار الوقائع. وقد تكون الشخصية نفسها تقوم برواية الاحداث"6. 

رواية
نوع من الشغب الفني تؤطره رؤية مغايرة للجاهز الإبداعي والنقدي

الكتابة عنده تنهض بها ذاكرة موشومة بفواجع مرحلة تم إجهاض أحلامها الكبيرة التي صارت مجرد غبار تذروه رياح الجمر والرصاص. ذاكرة تنقل الواقع التجربة في حركة الكتابة، فالراوي "يخلق ذلك الماضي أكثر مما يعيد تكوينه، يخلقه الراوي داخل حاضر الكتابة التي بواسطتها يتم الإعلان عن ميلاد الذات المعاصرة للمحكي".7 تعرف ذاكرة الراوي أن ليس هناك ماضيا جاهزا يكفي سرده ببساطة، إنه ماض يخترقه الحاضر. ذاكرة تعرف سيرورتها كوعي متحرك، تعيش ماضيها بسؤال الحاضر والمستقبل. لا شيء في الماضي يحافظ على براءته ونقائه وقدسيته. إنه ليس أكثر من مرحلة تترابط وتتفاعل مع صيرورة الزمن، في سياق سيرورة تحولات الذات في فضاء روائي اجتماعي قمعي يمارس هدر الانسان في حياته وكرامته، الماضي يدخل دائرة الوعي ككتابة أدبية، التي هي دائرة السؤال النقدي. 
هكذا هي الكتابة في "كان وأخواتها". كتابة تعرف مقوماتها وخصائصها المعنوية والأدبية والفكرية والدلالية. فهي لا تلجأ الى النقل الأمين كمفهوم متعال. ولا تؤرخ للذات إلا في ارتباطها الجدلي مع الذوات الأخرى، كعلاقات إنسانية لها سياقها التاريخي. 
"كان وأخواتها" لم تختزل نفسها الى مجرد حكاية غارقة في الحديث عن الذات، فالكاتب ينوع ضمائره هروبا من تحديد فليب لوجون للسيرة الذاتية من حيث تطابق الكاتب والسارد والشخصية الرئيسية، حيث يقول" السيرة الذاتية حكاية إرجاعية نثرية يحكيها شخص واقعي عن وجوده الخاص ندما يركز على حياته الفردية وخصوصا على تاريخ شخصيته".8 
الراوي يبدأ سرده كما قلنا بضمير الغائب محاولا خلق مسافة بينه وبين (ش) الشخصية الرئيسية" يحن (ش) الى الماضي" . 
كما نلاحظ في الوقت نفسه أن السرد ينخرط في مسافة زمنية يمثلها حنين (ش) الى الماضي "مسافة ووهم إذكار مشبع بالرغبات والتوجع، الماضي يعود اليه كأن ذكرياته الطرية ما وقعت في حياته الطفولية إلا بالأمس."9 ثم يصبح المروي عنه راويا " وحين كان المؤذن يطل من مربع الصومعة كنا نخلي المقهى."10 إن الراوي رغم محاولاته تحقيق نوع من التمايز من خلال تنويع الضمائر، إلا أن السياق الدلالي يؤكد تماهي الراوي بالشخصية" لا أعلم هل تبدلت هذه القرية المكسورة أما ( ش) فقد تبدل. وهل استعاد سكانها عافيتهم السليبة أما هو فقد انطوى على نفسه وبايع الاحزان"11.
 ثم يضيف قائلا " وأنا أذكر هذا أشعر بالضياع التام"12. إن (ش) يجعل من نفسه تارة راويا أو مخاطبا، وتارة أخرى متكلما عنه أو مخاطبا. إنه يشعر بهذا التعدد الذي صاره، بهذا التحول والتغير اللذين أنتجتهما مسافة الماضي الذي تقوم عليه الذاكرة في سردها المتهاطل.
 هذه المسافة التي سوغت السرد فجاءت بـ"كان وأخواتها". ف (ش) يعي هذا التعدد من خلال فعل الكتابة، حيث فنيتها تفرض ذلك "أقول مع نفسي يجب أن أرتب هذا السرد إذا كان في نيتي أن أكتب للحكاية صوتها أو على الأقل شيئا مفهوما مسكوبا فلا سبيل لدي لكي أسعد كما أبغي باللحظات الطفولية الهانئة في القرية."13 مسافة واضحة،/ وتحول كبير بين (ش) السجين و(ش) الطفل.
 إن الكاتب غير واثق من قول كل ما يريد، إنه لا يستطيع أن يزعم قول كل شيء حسب رغبته، لان منطق شكل الكتابة مغاير لمنطق الوقائع والاحداث التي عاشها (ش) في ماضيه البعيد والقريب "فالكتابة كل كتابة تنهض على مستوى المتخيل، بمعنى أن الكاتب حين يكتب لا يتعامل مباشرة مع الواقعي، بل مع ما يرتسم في ذهنه أو في مخيلته من صور تخص هذا الواقع وتمثله وتعنيه"14.  هكذا يتحرر الكاتب من الشكل السيرذاتي التقليدي الذي يرى في التسلسل الحدثي والتتابع الزمني المنطقي شكل الكتابة السيرذاتية.
إن الراوي يزح تحت عبء وطأة ذاكرته بين أحداث ووقائع تتدافع وتتزاحم على طرف اللسان، وبين سرد جنوني كما لو كان في حالة طوارئ قصوى. "إن السرد يتجاوزني وذكرياتي تتحداني وكيف أضبطها وأرتبها وبأي مقياس أفرض عليها النظام والحساب إذ يخل ألي أنني يجب أن أقول كل شيء حتى ما يحرج من الخفايا المقموعة".15
ولن يتأتى له ذلك إلا من خلال تقنيات السرد الروائي." في فوضى وتوتر سأخرج من الماضي ولكني سأعود اليه كلما دعاني في ارتعاش عداد ذاكرتي"16. 
يعني أن المنطق الذي يحكم بنية النص هو منطق التكسير الزمني وتقاطع الاحداث والوقائع، في تعقد وتركيب التفاصيل والازمنة . إنه منطق الذاكرة عند اشتغالها: الانتقاء والبتر والتجزيء." إذ لا يستطيع السارد أن يأتي على ذكر ميع التفاصيل، ولا أن يقيم العلائق السببية الرابطة بين ما تحكيه الذاكرة وتستحضره. ولعبة الذاكرة هذه التي هي جزء من تكونها وطبيعتها، فرضت على كتاب الرواية والسيرة الذاتية مراجعة طريقة التعامل مع المحكيات"17. 
تنهض الذاكرة كمتخيل فتتجاوز المكان/الزنزانة، تنهض الذاكرة كضرورة لها منطقها الخاص والمستقل عن رغبة الراوي، رغبته في الاستراحة ."ذاكرته السيالة، ذاكرته السائبة هل تريحه لأنها تشتغل في نسيج دماغه كدودة خضراء(...) فالذاكرة تشتغل وهو يريد الراحة والهناءة والبراءة والاشباع، والذاكرة تمور بالالوان الصارخة، دماغه فيه دودة خضراء متحفزة ولا بد من إيقاف هذا التلاطم النفسي الراقص بشيء يحدث التوافق على الأقل إن كان لا يستطيع إحداث الانسجام على الأكثر والمشكل من أين يبدأ في السرد وهل سيكون لسرده صوته ولغته وهل يقدر البحر على سرد أمواجه المتلاحقة."18 
الرواية معنية بأسئلة بمنطق وشكل الكتابة، فهي تعبر عن وعي نقدي يدفعها الى تجاوز شكل لسيرة الذاتي التقليدية. فتعليقات الراوي تعبر عن رغبته في عدم السقوط في الانفعالية، لأنه على وعي بأنه "قد حذر نقاد كثيرون بالفعل من الخلط بين السارد الخيالي والمؤلف الواقعي، فهذا ف.ايزر wolfgang kayser ينبه الى أن (السارد شخصية مختلفة تنتمي الى العمل الادبي في جملته) ويستخلص بأن ( السارد في فن المحكي ليس أبدا المؤلف المعروف أو المجهول، بل دورا يختلقه المؤلف ويتبناه)19.
لهذا تنهض الذاكرة في "كان وأخواتها" كمتخيل وتخييل، كواقع فني، فتكون الكتابة متميزة، حركتها كحركة البحر أو حركة الواقع في تعقدها، لا تعطي الكتابة ذاتها إلا في سيل من الأمواج والوقائع المتلاحقة والمتمفصلة في تعقدها وتناقضها.
"كان وأخواتها" سيرة روائية تصدم أفق انتظار المتلقي النقدي، فهي تتجاوز وتخرق قواعد هذا الجنس الفني من الكتابة الأدبية. تغير منطق اشتغالها كسيرة ذاتية من خلال الصياغة الروائية في شكلها الحديث. ففي الشكل الفني انفتاح على السرد الروائي الحواري، وفي الوقائع والاحداث متكأ للسير ذاتي المنولوغي.