قصائد إلياس ناندينو حين تصغي الذات لتجليات الجسد

الشاعر والطبيب المكسيكي يمتلك القدرة على الإصغاء للتفاصيل والمفردات البسيطة التي تشكل عالمه الذاتي ظاهرا وباطنا وتتفاعل مع الوجود الإنساني.

تفتح قصائد إلياس ناندينو التي اختارها وترجمها تحسين الخطيب تحت عنوان "ليلية الجسد وقصائد أخرى" على أفق الذات في حضورها المنتشي بالحياة وفلسفة حيواتها المعاشة، يواجه الحب والحلم والموت والصخب برغبة في الانتصار لجمال تلك الحياة، ويحتفي بالطبيعة ووجودها وتأثيرها عليه قدر احتفائه بلذات الجسد في تجليات علاقته مع الآخر.
ناندينو شاعر وطبيب مكسيكي، ولد في كوكولا في العام 1900 ومات فيها عام 1993، وتشكل هذه المختارات التي صدرت عن دار "ظلال وخطوط" رؤية لتجربته الشعرية الممتدة  في 16 مجموعة شعرية منذ صدور مجموعته الأولى "لولب" عام 1928 ومرورا بمجموعاته "لون الغياب"، "صدى"، "نهر الظلال"، "مرآة موتي"، "حب الليل"، وانتهاء بمجموعتيه "إيروتيكا بيضاء ـ حامية" عام 1988 و"مدارات أرضية" عام 1989. هذه الرؤية التي تكشف قدرة الشاعر على الإصغاء للتفاصيل والمفردات البسيطة التي تشكل عالمه الذاتي ظاهرا وباطنا، وتتفاعل مع الوجود الإنساني، ويبدو جليا حضور حس الطبيب خاصة في قصائده التي تحتفي بالطبيعة وتأثيرها وانعكاساتها على الجسد والحب والعلاقة الحميمة، حيث يرهف السمع إلى هذه النبضات العميقة ويشكلها.
كان ناندينو عضوا بارزا في جماعة "المعاصرون Los Contemporáneos" الحداثية التي كانت فاعلة في الحياة الأدبية المكسيكية في أواخر عشرينيات القرن العشرين وأوائل ثلاثينياته، والتي كانت على علاقات قوية بالحركات الشعرية في أوروبا خاصة الحركة السريالية، وهو الأمر الذي يظهر أيضا على ثراء تجربته وتفاعلها الفلسفي مع قضايا الجنس والموت والحياة. وفيما يلي مختارات من قصائد المجموعة.
قصيدة لم لا أكون جسدك
لِمَ لا أكونُ جسدكِ 
على جسدي العاري
لأحضن نفسي
وأشعر بالنار وهي ترتحل
على فخذي فيك؟
 لِمَ لا أكونُ عينيكِ 
لتبكيا في عينيّ 
في ظل صدري
وتشقا الصمت 
بخرز الماء؟
لِمَ لا أكونُ يديكِ 
لألعب بيديّ
وأنساب بهما عبر جسدي
كدميتين دفعتهما الريح
لأخلق عناقا جديدا؟
لِمَ لا أكونُ فمكِ 
لأقبل نفسي في النار
التي قدحتها على شفتيّ وأشعر بأني الذي
يسكب نفسه في الآخر؟
لِمَ لا أعيش حياتكِ 
لأشعر بما أشعر به
عميقا في صدرك
وأرقبك تقتربين مني
كصورة في المرآة؟
أريدُ أن أكونَ الكأسَ والنّبيذَ معاً،
الجذورَ والأغصانَ،
ضفّةَ النّهرِ والتيّارَ،
الجرسَ وصوتَهُ،
الوقودَ ولهيبَهُ.
أن أظلَّ نائماً دونَ أن أرانِي،
مستيقظاً هنا قربكِ،
وإني أطيرُ في تحليقةِ أحلامكِ 
لأكونَ أشد قرباً إليكِ
وإنّي أتنفّسُ في جسدكِ.

قصيدة أبدية جنسية
لنبق على هذا النحو،
ككلبين ملتصقين معا،
حتى يأتي الموت
ليفرقنا.
فليدفنوننا معا
مسفدين على هذا النحو،
من يكترث إن كنا ميتين، 
فما زلنا تحت الأرض معا
أبديين في الحب!

قصيدة ما الموت؟
أن تموت
أن تطير
بلا أجنحة 
بلا عينين
بلا جسد.

قصيدة ليليلة في ألسنة اللهيب
1 ـ 
قبل أن أولد، حين
كانت المجرات رعشة أو تكاد،
عطشا يتناوب في الخواء،
أو دما بلا سجن العروق؛
قبل أن أكون ظلا مكروبا
ينبض في سترة من رمال،
طويلا قبل أن يعرف
جسدي الأمل والحزن؛
بحثت عن اسمك شبيهك،
نبض تجربتك الشريد،
تحديقتك في النجوم المبعثرة؛
لأني وقبل المظهر المحموم
لغرائزي العمياء، مشتاقا
شعرت بوجودك للتو.
2 ـ
من أستطيع العودة إليه في عذابي؟
أي لاهوت، أي نجم براق
أستطيع سؤاله أن يمنح هذي العذوبة
المرة إلى شخص آخر؟
من أنادي في هذا الدم المعتم
الحراق حيث أموت؟
من أستجديه ذرة رقة
في ألم اليأس هذا؟
من في جحيمي العطوف سيسمع
اعتراف حكاية حياتي الحقيقية
التي من أسرار، يا حبي الملتهب؟ من؟
وفي الانعطافة العظيمة الأبدية، عليّ أن أفعل
شيئا ما، حتى حين يسمع صوتي
يرفع كلماتي إلى أذنيه.
3 ـ
كم تحولا قاسيته؟
وكم قرنا سيأتي من ضياء وألوان،
غمامات، شفق وأزهار،
رحلتِ فيه؟
في أي كوكبة لمعتِ؟
وكم حزنا، وكم موتا
إعصارا، صاعقة برق وفجرا
قبل أن تأخذي شكلك الجسدي؟
لا تستطيع أفكاري أن تتخيل
ذلك العمر الجوي الذي قضيناه
في انتظار دوار؛ ولكني أشعر
بأنّا قد طفنا ألفية من ضياء
منتظرين في القبة الزرقاء
كي نتوحد الآن في وجود الحب.
4 ـ 
وحين انفتحت عيناك
على المشهد؛ رأيت الذي حقا
قد منح الحياة إلى أشد النجمات بريقا
والصبابة إلى الأرض الموات.
في وجودك أرى بوضوح
تاريخ افتتاح أول
تشنجات الضياء ومنبع
الشبكة الدوارة للنجوم،
وحين أضم جسدكِ، يشعر
جسدي بالكون كله، وبقواعده
قوانينه الكونية التي تحكمنا.
لأن ضياءكِ يملأ الخواء
وحين نذوب معا، تنصهر الفتنة
الحراقة لقوى الأصل.
5 ـ
في هذه العزلة التي من ظل نقي،
من سكون يتحرك دوما،
من خرس يحرق الفكر
في الكفاح الأسود لليل المعتم؛
كل سيول المرارة قادرة،
نهر الهواجس الأخلاقية،
الفتنة المقعرة للقبة الزرقاء
والحب، الحب الذي يعذبني.
في نبض العتمة الحي هذا
حيث يحشد السهاد بأسه
محاولا ضم اشتياقاتي،
بالرغبة الطبيعية
للحب تكبر خلف الحدود
أستطيع عيش أبديات في لحظة ما.