"قصائد للحياة وللوطن" اشتغال السير ذاتي في الشعري

شكل السير ذاتي أحد العوالم التي ينهل منها الشاعر حاتم النقاطي متفاعلا مع ذاكرته وتفاصيل حياته اليومية.
النقاطي يمنح الكتابة الشعرية نوعا من التنوع الأجناسي، محاولا توسيع المساحة الجمالية بين النص والمتلقي
من عادة الشعراء تذييل قصائدهم بتواريخ وأماكن الكتابة بتفاوت

رياض خليف

في زمن النص الأدبي المركب في مستوى شكله الأجناسي وعوالم تخييله تهيم الكتابة الشعرية في عوالم مختلفة، تلتقط منها ما يملأها ويشحنها ويعبئ إنشائيتها وجمالياتها. فلم يعد الشاعر يهيم في وادي عبقر ليعود بقصيدة رنانة، وإنما أصبح يهيم في عوالم التاريخ والأسطورة والتراث، ويلتحم باليومي وبذاكرته. 
وقد شكل السير ذاتي أحد هذه العوالم التي ينهل منها متفاعلا مع ذاكرته وتفاصيل حياته اليومية. وهو يشتغل في القصيدة بأشكال مختلفة، فهو لا يتصل فقط بكتابة ما ترسخ في الذاكرة من وقائع ومشاعر وفضاءات، بل يتخذ بعدا فنيا وجماليا. إذ يمنح الكتابة الشعرية نوعا من التنوع الأجناسي، محاولا توسيع المساحة الجمالية بين النص والمتلقي. هذا الاشتغال سنبحث في وجوهه وآلياته من خلال «قصائد للحياة وللوطن» للشاعر حاتم النقاطي، وهو العمل الشعري الصادر مؤخرا عن دار القلم، الذي يعزز رصيده من الإصدارات الشعرية بعد «رقصات على أنغام الصحراء» (1982) و«مدن الإله مدن العجب» (1995) و«زمن العجب» (2004). فكيف يبرز السير ذاتي في هذا العمل؟ كيف تستعير القصيدة تقنيات الكتابة السير ذاتية؟
1 . قصائد أم يوميات شعرية؟
من عادة الشعراء تذييل قصائدهم بتواريخ وأماكن الكتابة بتفاوت. فنسبة حضور هذا الهامش تتفاوت عند الشعراء، وتتراوح بين الغياب والحضور. ولعل تكثيفها وتدقيقها يلفت الانتباه فهي تخرج عن كونها مجرد تاريخ جاف للكتابة إلى نوع من الوشم الذي يخلد لحظة الكتابة وما رافقها. ولعل القصيدة تأخذ بذلك شكل اليوميات، ولعله من الممكن عدها يوميات شعرية. 
من هذا المنطلق تبدو كتابة حاتم النقاطي في هذا العمل كتابة تضمر بعدها السيرذاتي وتتفاعل مع جنس اليوميات، فهي مذيلة بتواريخ دقيقة تحيل إلى مرحلة الكتابة ومحطات مهمة في حياة الشاعر والبلاد، وهي كذلك تحمل أسماء أماكن ترتبط بحياة الشاعر ومحطاته. فنجد مكان إقامته (بني خيار/نابل) ونجد مكان عمله (سيدي بوزيد/نابل) وأماكن أخرى تتصل بسنواته الأخيرة (سوسة/ تونس). لذلك نكرر أن هذا العمل تغلب عليه اليوميات الشعرية، فهذه التذييلات التاريخية مشحونة بمعاني ودلالات تحملها هذه القصائد.

الشاعر يستحضر أسماء أفراد عائلته ويخاطبهم ويتحدث عن مهنته وما جرى تحديدا من ذلك تعيينه لتدريس الجماليات في معهد عال في مدينة سيدي بوزيد

ولعل بوسع القارئ النفاذ إلى حضور الأشكال السيرذاتية، من خلال ما في العتبات من إشارات، ففي العناوين الداخلية حضور للذاكرة وللرسالة ولليوميات وكلها أجناس سيرذاتية. فتطالعنا الذاكرة في قصيدة «المحفظة وعشق الذاكرة» وفي «ذاكرة القلب» ونجد الرسالة ويوميات الفقير. هذا الحضور الذي تنسجه العناوين للسير ذاتي يتجسد في المتن، فتصبح القصائد كتابة للذات وما يخالجها وعودة إلى ذاكرة الشاعر ورحلته.
كتابة «كان»
لا يشتغل السير ذاتي بحضور ملامح الأجناس السيرذاتية، وبذكر الماضي فقط، بل بحضور تقنية كان ومشتقاتها في القصائد. وما من شك إن كان تحيل إلى الماضي وتقطع مع المحتمل الذي نشير إليه بما «قد كان أو قد يكون». 
فكان بشحنتها الوثوقية تستحضر الماضي الماثل في الذاكرة، ولعل تواتر استعمالها يميط اللثام عن تحول الكتابة الشعرية إلى كتابة للذاكرة التي تعد بدورها نمطا سير ذاتيا. فتأخذنا الذاكرة نحو الطفولة والمحفظة التي تحضر بامتدادها نحو الطفولة وبدايات التمدرس وظروف الحياة وقلقها: 
«كان يومك الأول قلقا ورذاذا وانتشار الذباب… 
هكذا كنت لا تحسن العد وترتيب الكلمات ومعرفة الألوان…
كلما جاء الخريف تمسحها بالريق
أو بالرذاذ.. أو بقليل من زيت الزيتون»
محفظة تحيل إلى الماضي
وتصبح المحفظة تذكارا للتاريخي وللسنوات الطويلة يمتزج فيه العائلي بالوطني والأب بالزعيم:
«هي محفظة
تفاجئني صورتها في كل حين
صدى مذياع… ملامح أب… رائحة تراب… 
توجيهات زعيم وميدعة بلون الرماد»
وهي كذلك تحيل إلى راهن الشاعر والمدرس الجامعي:
«ها أنت يا سيدي
أيها الشاعر الذي تسحبها من الأذنين
محفظة
حشوها رقص الحروف
وموسيقى الأوراق»
ويمتد حضور فعل «كان» ناسجا العوالم الشعرية في هذا العالم ليوسع الذاكرة ويضخ مشاهدها وصورها، فتتجدد وقفتنا معها في قصائد كثيرة:
«كنت كل صباح أغادر بيتي….
كنت بالأسواق أهيم»
كنت أنا الصغير متوحدا بالعجب
كان الشيب يزحف في دمي
كانوا يشاهدونني بالألوان
2 . التطابق مع المرجعي الذاتي:
ومن الأساليب الأخرى التي تبرز اشتغال السيرذاتي في هذه المجموعة نتحدث عن تطابق الشعري مع المرجعي الذاتي، فالشاعر يستحضر أسماء أفراد عائلته ويخاطبهم ويتحدث عن مهنته وما جرى تحديدا من ذلك تعيينه لتدريس الجماليات في معهد عال في مدينة سيدي بوزيد:
«سيدي بوزيد تدعوني
أنا المتوكل على الأول والآخر
درسي الأول الفن والذات والموضوع
ملاعين طلبتي…
مثلي تحركهم شهوات العين والكلمات
موسيقى حنجرتي ورقصات الشفاه»
لعل هذه المستويات ترسم اشتغال السير ذاتي في هذا العمل فتغدو هذه القصائد لحياة الشاعر وذاكرته حاملة نوعا من التوثيق. وهي تبدو كذلك رسما لعوالم الشاعر وتفاعله مع اللحظة التاريخية الوطنية وما فيها من هواجس عبّرت عنها جملة من القصائد. وتلك أسئلة أخرى انحرف عنها سؤالنا المدخلي إلى هذا العمل ويمكن تدبرها عبر مداخل أخرى.