قصة إحباط جيل خاض حربا عادلة ضد الفاشية في'مجد عابر'

جوان سالاس يستخلص في هذه الرواية حيواته المتعددة وتجاربه ويصوغها في قصة خالدة عن الحب المحبط والشباب الضائع والأوهام المحطمة، مؤكدا انها تأتي كشهادة لرفاقه الموتى.

يعد جوان سالاس الذي ولد عام 1912 وحارب في صفوف الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الأسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين، من أهم الكتاب والناشرين والمترجمين باللغة الكاتالونية، كما يعد أحد رواد النشر بهذه اللغة.

 في سن الخامسة عشرة سُجن لمدة ثلاثة أشهر بسبب احتجاجه على دكتاتورية بريمو دي ريفيرا. وبعد هزيمة الجمهورية الإسبانية على يد الفاشيين، كان واحدًا من الذين سلكوا طريق المنفى وعبروا إلى فرنساأولا. حيث أمضى تسع سنوات في المنفى متنقلا بين فرنسا وهايتي وجمهورية الدومينيكان والمكسيك، كان يعمل في الطباعة. وعقب انتهاء الحرب وعودته إلى كاتالونيا في عام 1948، بدأ في كتابة عمله العظيم، "مجد عابر". وكرس نفسه لنشر الكتب الثقافية والأدبية باللغة الكاتالونية، بقدر ما كان ذلك ممكنًا ضمن قيود الرقابة التي فرضتها ديكتاتورية فرانكو.

"مجد عابر" التي صدرت أخيرا عن دار صفصافة بترجمة عبد السلام باشا، والتي أخذت عنوانها من عبارة شكسبير "المجد العابر في أحد أيام شهر أبريل..."، لا تنفصل أحداثهاعن حياة سالاس، حيث جاءت على خلفية الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت في ثلاثينيات القرن العشرين، فعلى الرغم من تخرجسالاس في الأكاديمية العسكرية الكاتالونية وعمله كضابط، إلا أنه قاتل إلى جانب الجيش الجمهوري، وكما أشار الكاتب الإسباني الكبير خوان جويتيسولو في مقدمته لإحدى طبعات الرواية العديدة أنها "ملحمة آسرة تثير العديد منالمقارنات مع أعمال دوستويفسكي وستادال. وأضاف إن سالاس "لا يؤسس تفكيره على حقائق مؤكدة، بل على حياة معرضة لسخافة العالم ومواكبة الدماء والموت والظلم".

في هذه الرواية سالاس، محارب الحرب الأهلية الإسبانية، يستخلص حيواته المتعددة وتجاربه ويصوغها في قصة خالدة عن الحب المحبط والشباب الضائع والأوهام المحطمة. يقول أنها تأتي كشهادة لرفاقه الموتى، ويضيف "سعيت إلى أن أشهد على ما مررت به، ضد الكذبة السوداء - الكتائبيين - وكذلك الكذبة الحمراء - الكتائبيين أولاً ثم الشيوعيين".

الروايةمقسمة إلى أربعة أجزاء، ولكن يظل مركزها المحوري هي الحرب التي يقدمها من منظور المهزومين. وقد نشرت الرواية في خمسينيات القرن العشرين وتعرضت للرقابة في أسبانيا الفاشية، ولم تنشر في وطن الكاتب سوى عام 1971، وبسبب قوتها على مستوى الرؤية والمعالجة الموضوعية والفنية تمت مقارنة سالاس مع دوستوفيسكي..تتخللها الصور الحية للعالم الطبيعي والحياة اليومية، والتي تعطي الخيال مضمونا حقيقيا، والمناقشات الحادة والخطوط الفلسفية المفجعة بالجراح وأيضا بلمسات من الفكاهة - عادة ما تكون مظلمة.

تعبر "مجد عابر" عن إحباط جيل خاض حربا عادلة ضد الفاشية، لكنه فقد مثاليته وشبابه، وقد افتتح سالاس الرواية بمقدمة تحت عنوان "اعتراف المؤلف"، قال: "المجد العابر في أحد أيام شهر أبريل..." كل محب لشكسبير يعرف هذه الكلمات، وإن كان عليّ أن ألخص روايتي في جملة واحدة، سأختار هذه الجملة".وأضاف " توجد لحظة ما في الحياة حيث يبدو أننا نستيقظ من حلم، ولم نعد شبابا. لا يمكن أن نظل شبابا للأبد بالطبع. لكن ماذا يعني أن نكون شبابا؟ يقول بودلير "لم يكن شبابي سوى عاصفة مظلمة". ربما كل شباب هو هذا، وكان هذا، وسيكون هذا: عاصفة كئيبة يشقها برق المجد -مجد عابر- في أحد أيام أبريل". يدفعنا شغف غامض أثناء تلك السنوات الشاقة العاصفة. نبحث، بوعي أو بلا وعي، عن مجد لا يمكننا تحديده. نبحث عنه في أشياء كثيرة، لكن في الحب على وجه الخصوص.. وفي الحرب، إن ظهرت الحرب في طريقنا. كانت هذه هي حال جيلي. يصبح العطش للمجد حادا لدرجة الألم في لحظات ما من الحياة؛ ويصبح العطش أكثر حدة كلما كان المجد الذي نتعطش إليه عصيا على التحديد؛ وأكثر غموضا أيضا. تحاول روايتي الإمساك، تحديدا، ببعض تلك اللحظات لدى بعض شخوصها. وماذا كانت النتيجة؟ لست أنا من يجب أن يرد على هذا السؤال. لكنني أعرف أن من أحب كثيرا سيحصل عىل عفو كبير. كان هناك شغف أكبر بسان ديسماس ومريم المجدلية في أزمان غابرة؛ لم يكن هناك الكثير من التحذلق كما هي الحال الآن، ولم نكن نحاول إخفاء الشغف الذي نحمله جميعا في أعماقنا خلف النظريات والرسائل والتنظريات المجردة. نحن خطاؤون بعطش كبير للمجد. لأن المجد هو هدفنا.

مقتطف من الرواية

مخلب الرب الرهيب

سييرا كالبا، 28 أغسطس

وداعا أوليفيل دي لا بيرخين. أصبحت قرية من قرى كثرية تغرق في ماض شائه. أين الزهور التي تضعها الفتيات في عروات السترة يوم وصولنا؟ تلك الزهور ذات اللون الأحمر القاني – "بلون عباءة إيتسي هومو...".- خرجوا بملابس الأعياد، بالعمدة ومجلس البلدية بالكامل، ليتوسلوا إلينا لكي لا نذهب؛ كانوا خائفين من عودة الفوضويين إن ذهبنا. بذل القائد جهدا كبيرا لكي يفهموا أن بقاءنا أو رحيلنا لا يعتمد علينا.

كانوا يصرون:

ـ ألا تشعرون بالراحة في أوليفيل؟

والعمة أوليجاريا؟ عيناها المحمرتان الممتلئتان بالعماص كانتا تذرفان دموعا غزيرة. كان جايارت موجودا؛ وبعدما خلفنا وراءنا آخر أراضي الجرن، اعترف لي:

ـ كنت ميتا من الرعب.

شغلنا بعض المواقع في قمة ذلك الجبل، العاري مثل كف اليد. يمتد أمامنا السهب؛ ويمكنني رؤية دشم العدو في خطوط متلوية عبر النظارة المكبرة. وخلفها توجد قرية بويبال دي لادرون.

بدأت المعركة الرئيسة على مبعدة أربعة عشر كيلومترا من مكاننا، باتجاه الشرق. قامت فرقتان بمهاجمة قرية شيلتي، غير المعروفة لكنها أصبحت هامة الآن لأنها تشكل جيبا متقدما للعدو. كانت بويبلا دي لادرون هي عنق هذا الجيب تحديدا؛ ولهذا كان الاهتمام بالاستيلاء عليها. كانت الفرقة تتقدم على هيئة كماشة؛ لواؤنا على اليسار، ولواء ”الأقدام المسطحة“ على اليمين.

بدأ النهار في الطلوع. لم يكن هناك ما يدعو لتوقع هذا، بزغ صف من السحب من الأرض في صمت، خلف دشم العدو، بينها وبين البيوت الأولى في بويبلا. أركز النظارة المكبرة. صف آخر، صامت وغير متوقع أيضا كان يظهر في تلك اللحظة، لكنه أقرب للدشم، بين الدشم والأسلاك الشائكة. وصلت قعقعة الانفجارات الأولى إلى سمعي؛ استغرقت خمس عشرة ثانية. أعتقد أنها خمسة كيلومترات تقريبا. لكن في الحقيقة كانت المسافة أقل، لابد أنني لم أحسب مسافتي المرجعية بدقة في الكرونومتر. اللعنة على الدقة، أنا لست ضابط مدفعية. ومع الدفقة الثالثة بزغ الكيثر من المشروم الأبيض في الدشم نفسها، في ذات خطوطها الملتوية. ”شيء مبهر“، لابد أن بيكو سيقول هذا بإعجاب بلا حدود بالمدفعجية وحساب المثلثات. الآن، بعدما أصابتها بطارياتنا بدقة، تقوم بإمطارها بنيران متواصلة لدرجة أن كل وابل كان يختلط بما يليه. لم أكن أعرف أن هجومنا على بويبلا دي لادرون سيكون اليوم؛ إنه أقوى أداء للمدفعية رأيته لمدفعيتنا حتى الآن في الحرب؛ إن أمكنها الاستمرار علىهذا الإيقاع خلال ساعة، على افتراض أن المدافع ستتحمل هذا، لن تتبقى روح واحدة.

كان أول شعاع شمس مائل يضيء الدشم، ويسمح لي برؤيتها بدقة عجيبة عبر النظارة المكبرة.

كان العدو يهجرها. كانوا من الحرس المدني: من حين لآخر كانت الشمس تبرق على قبعاتهم اللامعة ثلاثية الزوايا. جنود الحرس المدني هائلون، دائما بقبعاتهم ثلاثية الزوايا. لكن، ماذا يفعلون؟ كانوا يخرجون من الدشم حيث تنفجر القذائف دون توقف؛ يخرجون من مخابئهم، لكن ليس ليهربوا في اتجاه بويبلا، وإنما في الاتجاه المعاكس.كانوا يقفزون فوق الحاجز ويرتمون على الأرض بينه وبين الأسوار المصنوعة من الأسلاك الشائكة. كانوا ساكنين أمام الدشم، على مسافة

واحدة بين كل منهم، الآن يمكن تشبيههم بتماسيح نائمة على ضفة نهر. يجب إبلاغ بطاريات المدفعية، كانوا يهدرون الذخيرة بلا نفع؛ ويقصفون دشما فارغة. يجب أن يصححوا التصويب، بحيث يكون أقصر، بضعة أمتار ناحيتنا وستتطاوح أشلاؤهم في الهواء. قبعات لعينة ثلاثية الزوايا، لم أستطع الاتصال ببرج المراقبة وفات الأوان؛ كانت فرقنا للمشاة تتحرك، منحنية، باتجاه الأسوار المصنوعة من الأسلاك الشائكة، ويجب عىل بطاريات المدفعية أن تتوقف عن إطلاق النيران. عاد الحرس المدني إلى الدشم، كلهم في الوقت ذاته، الآن أسمع صوت حشرجة، صوتا معدنيا، تكتكة المدافع الرشاشة، كان جنودنا يسقطون بين الأسلاك الشائكة.

لا أريد رؤية هذا. أعود للكوخ.

أكتب بجوار نار التدفئة. الفجر بارد في هذه الأماكن المرتفعة النائية. ترافقني في صمت فقاعات حساء المعسكر الذي سيكون وجبة فطورنا. انتهت جمهوريات الضباط؛ من قائد اللواء حتى أصغر مجند، كلنا نأكل سواسية. المساواة المقدسة للحساء العسكري!