قضية تغير المناخ وراءها انقسام سياسي بين الدول الغنية والنامية
دخلت اتفاقية كيوتو، أول معاهدة دولية للحد من مساهمات الإنسان في تغير المناخ العالمي، حيز التنفيذ في فبراير/شباط 2005. وبهذه العلامة الفارقة، دخلت التعهدات الملزمة لخفض انبعاث غازات البيوت الزجاجية، الانبعاث الذي يساهم في تغير المناخ العالمي، موضع التنفيذ في الكثير من الدول الصناعية في العالم. وقد عمق هذا الحدث أيضا من الانقسامات السابقة بين أمم العالم التي استمرت لعقد تقريبًا. وأبرزها بين غالبية الدول الصناعية الغنية، بقيادة الاتحاد الأوروبي واليابان التي انضمت للاتفاقية، والولايات المتحدة (لم تنضم لها إلا أستراليا من بين الأمم الصناعية الغنية)، التي رفضت الاتفاقية، كما رفضت المقترحات الأخرى بشأن الإجراءات قصيرة المدى للحد من انبعاث غازات البيوت الزجاجية، حتى بين الأمم التي انضمت لاتفاقية كيوتو، يوجد تنوع هائل في الجدية والخطوط الزمنية للتدابير التي تتبنَّاها للحد من الانبعاث، وبالتالي في احتمالية أن تحقق التخفيضات المطلوبة.
في هذا الكتاب "تغير المناخ العالمي بين العلم والسياسة: دليل للمناقشة" الصادر أخيرا عن مؤسسة هنداوي بترجمة عبدالمقصود عبدالكريم يحاول كل من عالم المناخ الأميركي أندرو دسلر وإدوارد أ. بارسون أحد أبرز أساتذة القانون البيئي في أميركا، توضيح للمجادلات العلمية والسياسية المثارة حاليا بشأن تغير المناخ، حيث يتناولان قضايا علم الغلاف الجوي التي تشكل لب مناظرة علم تغير المناخ.
ويراجعان المعرفة العلمية الحالية والشك بشأن تغير المناخ، وطريقة استخدام هذه المعرفة في المناظرة العامة والسياسية، ويفحصان التفاعلات بين المناظرة السياسية والعلمية.
ويوسع المؤلفان في رؤاهما حيث يتناولان التأثيرات المحتملة لتغير المناخ، والاستجابات المتاحة فيما يتعلق بالخيارات التكنولوجية التي يمكن أن تتطور أو تنتشر، وبالسياسات التي قد يتم تبنيها، بالنسبة إلى هذه المناطق كما بالنسبة إلى علم المناخ، مع مراجعة المعلومات الحالية ومناقشة نتائجها بالنسبة إلى الفعل، وكيف تُستخدَم في المناظرة العامة والسياسية. وأخيرًا، يدفعان هذه الجدائل للمناظرة العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية معًا لتقديم خطوط عامة لمسار يخرجنا من الجمود الحالي.
يلفت المؤلفان إلى وجود انقسام كبير بين البلاد الصناعية والبلاد النامية، حيث تتطلَّب اتفاقية كيوتو وقف انبعاث الغاز فقط من البلاد الصناعية. لا تقدم اتفاقية كيوتو أو الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ، وهي معاهدة سابقة، إلزاما معينا على الدول النامية للحد من الانبعاث فيها. وظهر هذا في نقطة من أشد نقاط الاختلاف بشأن اتفاقية كيوتو، اختلاف حاد بشكل خاص حيث لا تنص الاتفاقية على التحكم في الانبعاث في الدول الصناعية سوى خمس سنوات فقط من 2008 إلى 2012. وفي صورتها الحالية، لا تتضمن أية سياسات أو التزامات بعد 2012، سواء بالنسبة إلى الدول الصناعية أو الدول النامية، بينما تمثل اتفاقية كيوتو خطوة أولى متواضعة باتجاه استجابة ملموسة لتغير المناخ، لا يوجد تقدم أساسي في التفاوض بشأن التغيرات الأكبر طويلة المدى، لتبطئ أو توقف أو تعكس أية تغيرات في المناخ قد يتسبب فيها البشر. وهذه الانقسامات السياسية تزداد حدة، صارت المناقشات العامة بشأن ما نعرفه عن تغير المناخ أكثر حرارة.
ربما يكون تغير المناخ القضية البيئية الأكثر إثارة للنزاع التي رأيناها حتى الآن. تتبَّع القضية في الأخبار أو المناظرات السياسية، وسوف ترى جدلًا عما إذا كان المناخ يتغير أم لا، وإن كانت أنشطة الإنسان تؤدي إلى تغيره أم لا، ومدى تغيره وسرعة تغيره في المستقبل، ومدى ضخامة النتائج التي ستنجم وخطورتها، وما يمكن القيام به ـ وبأية تكلفة ـ ليكون أبطأ أو لإيقافه. هذه المناقشات قوية، لأن المخاطر عالية، لكن المحير، والمزعج حقًّا، في هذه المناقشات أنها تشمل خلافات عامة مريرة، بين الشخصيات السياسية والمعلقين وأيضًا بين العلماء، بشأن نقاط قد تبدو مسائل واضحة تمامًا في المعرفة العلمية.
ويؤكد أن تغير المناخ قضية نتوقع فيها أن تكون الحجج المنطقية، الإيجابية والمعيارية، مؤثرة. في الحجج المعيارية، تكون مناظرة صريحة بين وجهات نظر متنافسة، ربما تكون بعضها متعارضة بشكل مباشر، مهمة. إذا كانت مجموعة في مناظرة عن تغير المناخ ترى أن التزامنا الأساسي حماية البيئة، بينما ترى أخرى أن الأولوية للحريات الفردية، ليس أي من المجموعتين على صواب أو خطأ. من الملائم تمامًا لأنصار هذه الآراء المتبارية أن يتنافسوا لإقناع صناع السياسة والمواطنين. ليس للعلم والعلماء سلطة خاصة في هذه المناظرة. مع ذلك، في الحجج الإيجابية ذات الصلة، مثلما هو الحال بالنسبة إلى التغير الملحوظ في المناخ، أسباب هذه التغيرات، والطبيعة المحتملة لتغير المناخ في المستقبل، في ظل ما يدخله الإنسان من إضافات، تتمتع المعرفة العلمية بسلطة خاصة، ومن ثم تساهم بشكل أكبر، لكن هذه المساهمة المحتملة كثيرًا ما تعاق بالافتقار إلى فهم الاختلافات بين المناقشات العلمية والمناقشات السياسية.
ويضيف المؤلفان أنه في المناظرات السياسية يمكن أن تكون هناك أيضًا اهتمامات مشتركة على نطاق واسع ـ مثلا في عدم ضياع المال العام في مشاريع عديمة الجدوى أو على الفساد، أو حماية الدولة من تهديدات قوًى أجنبية معادية ـ لكن الاهتمامات المتنافسة أكثر بروزا. يكافأ ممثلو السياسة على نجاحهم بطرق متعددة، حيث مكسب شخص يعني خسارة الآخر، من قبيل اكتساب السلطة والحفاظ عليها، مشرعين سياسات تتوافق مع مبادئهم السياسية، وموجهين فوائد عمل الحكومة (على سبيل المثال، الإنفاق على مشاريع الأعمال العامة) إلى مؤيديهم وعناصرهم، حتى حين تكون قضية مثل تغير المناخ جديدة جدا وغير مؤكدة، حتى إن الناس يرون بوضوح أقل أين تكمن اهتماماتهم المادية، تظل هذه البواعث تدخل عناصر تنافسية في كل القرارات السياسية. يتعلَّق الاختلاف الثاني الأساسي بين المناقشات العلمية والسياسية بقواعد المناقشة المقبولة. القواعد في المجالَين كلَيهما غير مدوَّنة غالبًا، مدفوعة فقط بقبول الآخرين واستهجانهم، لكنها تبقى مهمة. قواعد الحجة العلمية مقيِّدة جدًّا. مهما يكن دافع العلماء، فعليهم أن يتناقشوا وكأن دافعهم بشكل صرف السعي وراء المعرفة. العالِم الذي يكسر القواعد - الذي يقدم مقولات جارفة اعتمادًا على دليل محدود، أو يفشل في الاعتراف بأنه يمكن أن يكون مخطئًا، أو ينتقي الأدلة بشكل انتهازي ليدعم رأيه، أو يتجاهل الأدلة المعارضة أو يقدمها بصورة سيئة، أو يقدم حججًا مفعمة بالعاطفة، أو يهاجم المعارضين هجومًا شخصيًّا - يخاطر لا محالة بإلحاق الأذى بسمعته وموقفه المهني.
ويؤكدان أن قواعد المناقشة السياسية أكثر تساهلًا بكثير. في المناظرات السياسية، المقولات المبالغ فيها أو المنتقاة أو المتحيزة، ومناشدات العواطف، والهجمات الشخصية التي ليس لها علاقة بموضوع القضية المثارة؛ مؤثرة غالبًا ونادرًا ما تؤدي إلى عقاب أو حتى تُستهجَن، حتى الحيل الأكثر عدوانية، من قبيل الهجمات الشخصية التي لا ترتبط بالموضوع ارتباطًا جوهريًّا، ومناشدات التحيز، والكذب الصريح، لا تُقيَّد إلا بشكل ضعيف. ربما يفعل الغضب الشعبي هذا، لكن من النادر أن يستمر طويلًا ليكون مؤثرًا، بينما ينبغي أن يكون المعارضون السياسيون حذرين في وضع مثل هذه الحيل في الحسبان، حيث إنهم أيضًا قد يستخدمونها أحيانًا، بالإضافة إلى ذلك، هناك طرق كثيرة للفوز بموقف في مناظرة سياسية، إحدى هذه الطرق التمتع بسمعة بالنسبة إلى المعرفة والصدق، لكنها تمثل جمهورًا مهمًّا، أو حقيقيًّا بأن من المحتمل أن تكون مؤثرًا؛ وبالتالي لا يعرض فقد المصداقية العلمية موقفًا في مناظرات سياسية للخطر بالضرورة. من منظور العواقب الأقل نتيجة السير عبر هذا الخط، يكون أنصار السياسة أكثر رغبة من العلماء في المغامرة بالمصداقية لتحقيق أهدافهم.
ويرى المؤلفان أن التغير في متوسط درجة حرارة العالم هو المقياس المستخدم لقياس تغير المناخ، لكنه ليس ما يهتم به الناس. تغير المناخ مهم بسبب التغيرات الناجمة عنه حيث يعيش الناس، في مناخ موضعي وطقس وتأثيراته على الناس وعلى الأشياء التي يقدرونها، وبالتالي يتطلب وصف تأثيرات المناخ توقع تغير المناخ في مناطق وفصول معينة، حيث يشعر الناس والنظم الحساسة للمناخ بالمناخ. ولا يتطلب توقع درجة الحرارة فقط، بل يتطلب أيضًا الخصائص الأخرى للمناخ، وخاصة سقوط الأمطار، ولا يتطلب فقط توقع التغيرات في متوسط القيم السنوية، لكنه يتطلب أيضًا توقع التغيرات في دورتها الموسمية، وتنوعها وتطرفها.
وتفرض هذه المتطلبات تحديات خطيرة على تصميم نموذج المناخ وتوقعه. والتوقعات تنتقل من المتوسط العالمي باتجاه المناطق الأصغر تقلُّ استفادتها من استبعاد الأخطاء على نطاق أصغر، وهكذا تكبر أخطاء التنبؤ. ومن الصعب خاصة توقع سقوط الأمطار الإقليمية، لأنه يمكن أن يتغير بشكل كبير في مسافات قصيرة. التغيرات الصغيرة في مسارات العواصف يمكن أن تحوِّل جذريًّا موضع سقوط الأمطار وتوزيعها الموسمي. ويتطلب توقع تأثيرات المناخ أيضًا تقدير استجابات النظم البيئية والموارد الحساسة للمناخ، مما يضيف مزيدًا من الشك على التوقعات. بالإضافة إلى ذلك، إن كثيرًا من المجالات التي يحتمل أن يؤثر فيها المناخ مثل الزراعة والغابات التجارية، تسود المعالجة الإنسانية للنظم، ومن ثم يتطلب تقييم تأثيرات المناخ تأمل استجابات الإنسان لتغير المناخ. ونناقش هذه القضية الأخيرة، والأبعاد الاجتماعية الاقتصادية الأخرى المتعلقة بالتأثيرات والتكيف.
ويشيران إلى أن الأولوية الأكثر إلحاحًا أن تشرع الأمم الكبرى سياسات متسقة ومترابطة في المفاوضات الدولية، للحد من انبعاث غازات البيوت الزجاجية بتدابير مؤسسة على السوق، تضع سعرا مناسبا على الانبعاث، يكملها دعم للبحث والتطوير في تكنولوجيات الطاقة الآمنة للمناخ وإجراءات قطاعية أخرى. لاعتبار مهم، مع ذلك، نقترح فسحة من الممارسة والتوقعات الحالية: بدلًا من الاستمرار في البحث عن فعلٍ دولي بشأن المناخ، من خلال المفاوضات العالمية في ظل الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ، نؤيد مبادرة كبيرة من طرف واحد من الولايات المتحدة، تتبعها فورا مفاوضات حول صفقة شاملة تربط تعهدات المناخ والطاقة بين مجموعةٍ صغيرة من الأمم الكبرى الصناعية والنامية. وتقدم هذه الصفقة جوهر المفاوضات بشأن المناخ.
ويخلص المؤلفان إلى أن معالجة إخلال الإنسان بمناخ الأرض تشبه تجريب ناقلة في مياه خطيرة. رغم أننا لا يمكن أن نتأكد، يبدو محتملًا باطراد أن هناك صخورًا أمامنا: ربما نُوجه بشكلٍ صحيح تمامًا. نعرف أن هذا هو الاتجاه الذي نبغي أن نسير فيه، لكننا لا نعرف المسافة التي علينا قطعها لتجنب هذه الصخرة، وما إن كانت هناك صخور أخرى من حولنا، أو الجدية التي علينا أن نسير بها دون أن نخاطر بتدمير السفينة.
بالإضافة إلى ذلك، تحتاج سفينة كبيرة مثل هذه إلى أميال لتغيير مسارها. لسوء الحظ، لا يوجد أحد عند عجلة القيادة الآن. أفراد الطاقم تحت، يتجادلون عما إذا كانت هناك صخور أمامهم حقا، وعن المسار الدقيق الذي ينبغي علينا أن نسلكه للوصول إلى هدفنا النهائي، ومن عليه أن يسلك الطريق بنا. وأفراد الطاقم يتجادلون، تقترب السفينة أكثر من الصخور. بشكلٍ ما، ما نحتاج إليه هو أن نصعد بعض الدرجات لنبدأ في الابتعاد عن الصخور ـ الآن، ولأن السير بالغ البطء، يجب أن نبدأ الابتعاد فورا. في الوقت ذاته، نحتاج إلى أن نعرف المزيد عن موقع الصخور ـ ونعرف أيضًا، بالبدء في السير، كيف تستجيب السفينة ومدى الصعوبة التي يمكن أن نواجهها في تسييرها، لكن لا شيء من هذا الذي علينا أن نعرف المزيد عنه يبرر الانتظار في البَدْء في تسييرها: يعني فقط أن نسير بحذر، ونكون يقظين لكل ما يمكن أن نعرفه بشأن السفينة وأخطار المياه، ونحن نفعل ذلك. ربما علينا أن نتجنَّب الصخور، لكننا نحتاج إلى أن نبدأ الآن.