قمة جبل الثلج العائم في محيط السرد

البعض يرى أن طبيعة القصة القصيرة لا تتحمل سوى بضع صفحات قليلة استجابة لطبيعة الحياة السريعة وإيقاعها الموصول المرتفع الأداء.
بعض كتاب القصة يعتمدون في تكوين قصصهم على ذكاء المفارقة، أو طرافة الحادثة، أو اللعب باللغة
القصة القصيرة لا تتسع لرسم شخصية كاملة بكافة التفاصيل وبعمق كبير

كثيرا ما ُتثار قضية حجم القصة القصيرة في اللقاءات والمنتديات الأدبية واقعيًا وافتراضيًا، وطبيعي أنها كشأن أي قضية أدبية تحتوي العديد من وجهات النظر وتباين الرؤى، وإذا كان العرض يشتمل مختلف الآراء فإنه مما لا شك فيه أنه ما زالت هناك الحاجة لإقرار بضع مبادئ ثابتة، على رأسها أنه لا يجب الجزم بالاحتفاظ بمساحة ثابتة مقررة للقصة القصيرة أكثر من احتفاظها  بخصائص الأداء القصصي المميزة، وهناك مجال واسع يحتاج إلي الإبحار الموصول في آفاقه الرحبة لدرجة أنه يمكن تشبيه الإقرار بحجم معين للقصة القصيرة بقمة جبل الثلج العائم، والأمر على تفصيل. 
فالبعض يرى أن طبيعة القصة القصيرة لا تتحمل سوى بضع صفحات قليلة استجابة لطبيعة الحياة السريعة وإيقاعها الموصول المرتفع الأداء، وضرورة أيضا من حيث مقتضيات النشر بحيث لا تستغرق القصة القصيرة مساحة كبيرة خاصة في الصحف السيارة، حتى عبر رحاب التدوين الإلكتروني، حيث القارئ الميال للنصوص المكتنزة، كما يرون أن طبيعة القصة القصيرة نفسها توجب ألا تتجاوز صفحة واحدة حيث إنها عادة ما تقدم لحظة عابرة منفصلة، أو شريحة حياتية ترصد شيئا من تفاصيل الحياة المحكمة، ولا شك أن طول القصة يتوقف على هذا الاختيار الإبداعي، فالقصة القصيرة لقطة فنية محكمة من الحياة لكنها في ذات الوقت تشتمل على جميع عناصر ودراما الحياة، كأنما هي جزء من مادة أو قطرة من بحر الحياة الزاخر تحمل في طياتها كجزئ واحد جميع أوصاف ذاك البحر الصاخب.
بينما يرى نقاد كثر أن هناك الفارق الكائن من حيث الحجم بين القصة القصيرة والأقصوصة، فالأقصوصة حكاية تعرض في عدد قليل من الصفحات وتعتمد في بعض الأحيان على خبر، يدور حول مجموعة قليلة من الأفعال، وقد تشمل موقفًا معينًا يعبر عنه الكاتب بإيجاز دون إسهاب أو إفاضة، فمن سماتها الخفة والسرعة.

القمة قضية الحجم، والجبل المختفي "روح القصة القصيرة"، مما يستلزم غوصًا نحوه بالتأمل واستكشاف خصائص الأداء القصصي نفسه، وهذا ما يطمح إليه الدرس السردي دائمًا

وفي تحليل نقدي موفق: "أنه يبدو للمتعجلين أن قضية الحجم في القصة القصيرة ليست قضية جوهرية، بل ربما اعتبر الإيجاز والتركيز ميزة يتطلبها العصر ويتفق مع إيقاعه المتسارع، وهذا خطأ محض فليس التركيز فضيلة في ذاته فالفن ليس فكرة أو قضية مجردة، فالتشكيل عنصر أساسي، بل هو سر الجمال، ومصدر الإقناع بالفكرة، أو الانتماء إلي القضية، ولن تستطيع الصفحة الواحدة، أو الصفحتان أو الثلاث أن تقوم بحق الوفاء لعمق التحليل أو دقة التصوير أو إشباع الغوص وراء الدوافع. 
وبعض كتاب القصة يعتمدون في تكوين قصصهم على ذكاء المفارقة، أو طرافة الحادثة، أو اللعب باللغة، وما يصنعونه يمكن أن يكون شيئا غير أن يكون "قصة قصيرة" بالمعني الاصطلاحي لهذه الكلمة"، وهذا الرأي يبدو مؤيدًا لعدم تحديد الكم التعبيري المحدد والجازم للقصة القصيرة، ولكن تتحفظ وجهة نظر نقدية أخرى ترد على هذا الرأي منتقدة الإسهاب وترى أنه ينماع به بناء القصة: "فكاتبها لا محيص له من الإحكام والوصف الدقيق الموحي الذي يقصيه عن السرد والتقرير المباشر ويؤدي إلى التكثيف الذي ينتشله من مهاوي السذاجة، لكي تنضج (الحدوته) نضجًا واضحًا، ومن الإصابة التي تقطع أنفاس الحاشية المطولة، ومن ثم كانت المشقة التي يعانيها كاتب القصة القصيرة وإن بدا للآخرين أمرا سهل التأتي". 
لذلك كانت القصة القصيرة لا تتسع لرسم شخصية كاملة بكافة التفاصيل وبعمق كبير، ولا تتسع كذلك للحوادث الكثيرة، عبر امتداد زمني عريض بالسنوات مثلًا، أو الإحاطة بأحوال جموع أو آحاد من الناس في مختلف الأحوال، لكنها تمنحنا اختيارًا إنسانيًا كما يتمثل في موقف من المواقف، وقد تعرض موقفا نفسيًا أو موضعًا اجتماعيا يؤخذ بمفرده على حدة: "إن الموقف هو الموضوع الغالب على القصة القصيرة، ورسم الشخصية هو الموضوع الغالب علي الرواية"، وقيل أيضًا: "القصة القصيرة إذا امتدت مكانًا ضاقت زمانًا" والعكس صحيح أيضًا، وعلى هذا فجميع ذلك يؤكد ضرورة عدم إتخام العمل القصصي وشحنه بزوائد قد تكون أحمالا على القصة ولا تؤدي إلى خدمة معانيها وأفكارها.  
وبالعودة إلي التأصيل التاريخي للقضية نجد أنها ترتبط ببداية نشأتها على شكلها الفني الحديث والذي ابتكره عدد من أعلام الكتابة في هذا اللون، ومنهم إدجار آلان بو القاص الأميركي في حديثه عن وحدة الانطباع أو التأثير، فالمعيار الفني لديه يتوقف على وحدة الانطباع لنقله إلى القارئ، لذلك فهو يعترض على القصة الطويلة من الناحية الفنية لأن طول القصة قد يقتضي التوقف في قراءتها من آن إلى آخر مما يشتت وحدة الأثر ويدمرها، فيحرم القصة بذلك من تلك القوة التي تنشأ عن قراءتها قراءة متصلة، فإذا جاز التجاوز عن هذا الأمر في الرواية الطويلة، فإنه يعد أمرا جوهريا في القصة القصيرة لا غناء عنه، وفي قصرها أكبر معين على تحقيق هذا الأمر. 

ويحدد بو فترة قراءة القصة بين نصف ساعة وساعتين، يسيطر خلالها الكاتب علي روح القارئ، ويستطيع أن يحقق أثره على أكمل وجه، وفي حيز القصة المحدود يتوقف نجاح الكاتب علي إتقان صنعته، وهذا التحديد يعد قديمًا حيث قال نقاد إن القصة القصيرة تتراوح طولها بين خمس صفحات وثلاثين صفحة – فإذا قصرت عن خمس صفحات صارت " أقصوصة " – وإذا زادت عن ثلاثين صارت رواية قصيرة.
يذكر د . محمد عناني  أن هذا التحديد أيضا غير دقيق فكثيرًا ما تطول القصة عن ثلاثين صفحة وتحتفظ بكل الخصائص المهمة للقصة القصيرة، ومثل هذا الرأي يتحدث به الكتّاب الألمان منهم بيتس وفرانك أكونور، فيرون أن القصة القصيرة تختلف اختلافا تامًا عن غيرها من أنواع القصص، والمسألة ليست مسألة طول أو قصر، إنما هي روح القصة القصيرة نفسها، فهي عمل أدبي مستقل ومتميز لا يمكن تسميته إلا قصة قصيرة. 
ويتخذ آخرون مقياسًا آخر لطول وقصر القصة القصيرة ليس حسب قدرة القارئ على البقاء وقراءة القصة، إنما لمطالب النشر لا لقدرة القارئ على مدة التركيز، فيذكر هنري جيمس ما قال به إنه قاعدة ثابتة والمتعامل بها في المجلات المعاصرة وهي أن تتراوح القصة القصيرة ما بين 6000 - 8000 كلمة، وبالطبع تختلف هذه القواعد من وقت لآخر ومن مجلة إلى أخري ومن مكان للنشر إلى مكان آخر، فبينما نجد أن القصة الواحدة قد يكون حجمها ملائما لناشر وغير ملائم لناشر آخر، أما سومرست موم الكاتب الإنجليزي الشهير فيري أن الحجم المتوسط للقصة القصيرة يقع بين 1600 - 20000 كلمة، ولكن هذه أيضا ليست قاعدة فهناك القصة الفلاش والقصة الومضة والتي لا تتجاوز سطور عدة، وهناك قصص تقل عن 500 كلمة وقصص أخرة تتجاوز 32000 كلمة، يقول آيان رايد: "لا يرضينا أن يكون عدد الكلمات هو المعيار الوحيد فالفن الأدبي لا يحسب حسابيًا"، وعدد آخر من الكتاب يرون أن القصة القصيرة إذا طالت أصبحت رواية قصيرة، أى أن هناك نوعًا وسطًا أو شكلًا فنيًا آخر يقع بين القصة القصيرة والرواية يسمي "النوفيلا".  
ونعود لفكرة الألمان حول أن المسألة ليست حجمًا أو طول وقصر فهي قضية فرعية تتفرع عن القضية الأصلية والتي هي قضية "روح القصة القصيرة" وهي الفكرة التي عبر عنها شيخ القصة المصرية محمود تيمور: "إن القصة روح قبل أن تكون مظهراً، وفكرة قبل أن تكون حادثة، وإن روح القصة الحي وفكرتها الصميمة يجب أن تكون قبساً من الإنسانية التي إليها مرد الفن الرفيع في شتى صوره".
وهكذا تظل قضية حجم القصة القصيرة قمة جبل الثلج العائم في محيطات السرود والمختفي أغلبه تحت الماء، فالقمة قضية الحجم، والجبل المختفي "روح القصة القصيرة"، مما يستلزم غوصًا نحوه بالتأمل واستكشاف خصائص الأداء القصصي نفسه، وهذا ما يطمح إليه الدرس السردي دائمًا.