كاتبة مصرية تحلل تاريخ العلاقة بين العُربان والمصريين

ميرال الطحاوي تتساءل في كتابها "بنت شيخ العربان": هل ذاب البدو، واختلطوا في المجتمع المصري، أم ظلوا يشكِّلون مجتمعاتٍ خاصَّةً داخل المجتمع؟
الدراسة تعتمد على منظور الدراسات الشعبية والفولكلورية في تتبُّعها للتراث الشفاهي النسوي، وفي وقوفها على صورة البدوي في المخيلة الشعبية المصرية
الطحاوي تحاول فقط أن تفهم علاقة العربان الشائكة بذلك الوطن الذي سكنوا فيه، وظل حنينهم الجارف إلى نقيضه

تحكي ابنة العرب الروائية والأكاديمية ميرال الطحاوي، في سلاسةٍ عن الهوية والأصل وغرائب عوالم البدو، تسرد حكايا الجدَّات، وما ورثتهُ عن القبيلة، وتسأل في كتابها "بنت شيخ العربان" الصادر أخيرا عن دار العين: هل ذاب البدو، واختلطوا في المجتمع المصري، أم ظلوا يشكِّلون مجتمعاتٍ خاصَّةً داخل المجتمع؟ لتبحثُ في جرأةٍ وشجاعة عن العلاقة الشائكة بين العُربان وأصحاب الأرض من المصريين، بين القبيلةِ والأرضِ المزرُوعة، بين الحَضَر والبدوان، ذلك الصراع بين ثقافتين اقتسمتا تاريخَ مصر وأرضها وخيراتها، وتجاورتا لقرون؛ لكنَّ هذا الجوار لم يمح ظلال تلك العلاقة المرتبكة بين طرفيْ نقيضٍ، ظل كلٌّ منهما يحتقرُ ويقدِّس في الوقت ذاته غريمَهُ.
تنطلق الطحاوي من التاريخ الثقافي والتراثي للعربان في محاولة لاكتشاف تاريخ عرب الجزيرة العربية "العربان" إلى مصر وتاريخ الاندماج والنزاع والصراع الثقافي مع ثقافة زراعية، مستقرة، وتذهب إلى الأبعاد الاجتماعية لهذا الصراع الثقافي وكيف حافظت تلك القبائل على نقائها العرقي وخصوصيتها الثقافية وكيف تشكَّلت علاقتها بأصحاب الأرض أو فلاحي مصر، ومدى أيضًا علاقتها بغيرها من الجاليات كالترك والشركس والمماليك وكيف انتهى دورها السياسي.
الدراسة أيضا تعتمد على منظور الدراسات الشعبية والفولكلورية في تتبُّعها للتراث الشفاهي النسوي، وفي وقوفها على صورة البدوي في المخيلة الشعبية المصرية، وأثر التراث الشعبي الشفاهي المتداول كالسير والمغازي في خلق تلك الصورة المقدَّسة للفارس العربي، وتحلل الشعر الشعبي النسائي البدوي، أو ما يُسمَّى "شِعْر الغَنَاوة"، وهي أبياتٌ قصيرةٌ موجزة مكثفة تدور في معظمها عن المحبة والفقد معًا، في دراسة أركيولوجية ثقافية لمُحدِّدات الأنوثة في هذه الأشعار تحاول أن تقف علي تعبير النساء في المجتمع المغلق عن عاطفة المحبة، وكيف كن يتحايلن علي تقاليد الكتمان باستراتيجيات نصيَّة متعدِّدة، تكشف عن ذكاءٍ إبداعيٍّ منقطع النظير، تنتهي هذه الدراسة بمختارات من شعر العَلَم، مع تحليل وتقديم تفسير لغوي كامل لتلك الأغنيات.
تكشف الطحاوي أنها لا تحاول التأريخ لعربان مصر أو دورهم الثقافي والاجتماعي والأدبي في المجتمع المصري، ولا تحاول الدفاع عنهم، لكنَّها تحاول فقط أن تفهم علاقتهم الشائكة بذلك الوطن الذي سكنوا فيه، وظل حنينهم الجارف إلى نقيضه. كما تحاول فهم جذور تلك العنجهية والترفُّع على الحاضرة التي استوطنوها، وكيف ظلت ثقافتهم الصحراوية مهيمنة على تراثهم الشفاهي الذي شكَّل هويتهم الحقيقية، فقد سكنوا تلك الأرض، لكنهم احتفظوا بمروياتهم وتراثهم الشفاهي وتناقله من جيل إلى جيل ومن تغريبة إلى أخري وظلت تلك الأبيات الشعرية تزيِّن طقوس أفراحهم وأحزانهم.
تفتتح الطحاوي مقدمة كتابها مؤكدة على العمق الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه وظل جزءا لا يتجزأ من تكوينها، تقول "في المقعد المدرسي كنا أربع صغيرات نُوزِّع حصص الحكي، وننصت بشغفٍ لمن عليه الدور القادم، أقول للبنات إنني ابنة عرب وأتركهن يفسِّرن هويتي كما يتخيلنها، وعندما يحين دوري في الحكي، أردد لهن حكايات جدتي عن بلاد وعباد وجمال تخوض في الصحارى، تحرك الصغيرات رؤوسهن بحَيْرةٍ؛ فأدرك غرابة عوالمي التي تثير التندُّر، وتترك الكثير من المساحات الشائكة بين ما أروي وما أعيش، أكرِّر الحكايات التي ورثتها عن القبيلة وأدرك أنَّ عليَّ أن أحكيها في المرة القادمة بشكلٍ مختلفٍ، الحكايات كانت مهربي الوحيد من بيت أبي، ذلك البيت الذي لا يجاورنا فيه غير بيوت الأعمام وخلجان الرمل من كل جهة، وأشجار الكافور التي تفصلنا عن الحقول المجاورة.

الاضطرار للتعايش مع النقيض وهو الهاجس الذي شكَّل تاريخ القبائل العربية في مصر لم يكن سوى الاضطرار للانسحاق في هذا الوعاء الثقافي الضخم الذى اختلط فيه معمار النجوع القبلية بالقرى في دلتا مصر

وتضيف: بيتنا لم يكن سوى بيتٍ مثل كل بيوت القبيلة، جدة تجلس على فرشها وتغنِّي لي "ما أنتى للى يصد عويل ولا أنتي صيدة للرعيان" إذا أرادت تدليلي، وكنتُ أتطلع حولي فلا أجد "صيدًا" ولا "رعيانًا" ولا "غنائم" مجرد أحواش وفضاءات واسعة تسبح البيوت الطينية التي استقرت فيها القبيلة بعد طول حراك، وضربت حول مطافها الأخير سورًا عاليًا يفصل بينها وبين القرى الصغيرة التى انتشرت حول إقطاع البدوان. 
وتتساءل الطحاوي: المعمار القبلي الذي له شكل القلاع هل هو في مواجهة الفضاء الصحراوي هذه المرة أو في مواجهة الذوبان والاختلاط في المجتمع المصري؟ الأبواب الضخمة التي تُسيِّج طفولتي وتحيط بهذه البيوت، تلك الأبواب التي تفصل بيننا وبين الوجود الخارجي، تطرح عليَّ هذا السؤال الوجودي، من نحن؟ من خلق تلك العزلة، كيف أينعت تلك الهوية المشطورة؟ مرابط الخيول التي خلت، ظلت تقف في مواجهة تلك البيوت كأطلال مجدٍ خاويةٍ، ملاعب الطفولة وموطن الجنيات ومرعى الحكايات التي لا يصدقها أحد. 
وتشير: كان فرس جدك يُسمَّى الموزُون، كان من أنقى سلالات العرب. كان مرعى جدك مائة رأس، ومبرك جماله ترمح فيها الرهوان "أراقب الخرائب التي لم يبق من مجدها سوى حدوات ومرابط حديدية خالية الوفاض، بينما ظلت المهرة الهزيلة التي تتأرجح بوجعٍ في شجرة الكافور بالقرب من السياج هي الشاهد الوحيد على قيام وانهيار مملكة العربان على أرض مصر. بيوت الأعمام تتفاخر بالصور وتذكارات المجد القديم، وتتحلَّى بفخرٍ بما ورثته القبيلة من أوعية القهوة النحاسية وأدوات القنص، السيوف التي ادَّعُوا أنها تحفظ ما أسقطه التاريخ المكتوب من أمجاد.
وتتابع: جدتي التي كانت تجلس على فرشها وتحكي عن جمل وجمَّال، وتهزج بمغاني البدوان أهدتني أهازيجها التي تسمِّيها "غناوة" تلك الأغاني التي فتحت لي فضاء المتخيل الوحيد لما يمكن أن نطلق عليه "صحراء" كثقافةٍ خاصة، ووعي مغاير بالوجود والمحبة والفقد والترحال، تلك الصحراء لا تنتمي إلى التاريخ أو الجغرافيا، بل تنتمي فقط إلى الميراث التراثي الشفاهي المنقول، وهو في حقيقته متخيل ولا يستند إلا إلى الوعي الجمعي بأن ثمة ثقافة خاصة تجمعنا كعربان في بلاد فرضت علينا شروطها وأرغمتنا قسرًا على الاستقرار وعلى انتظار الفصول والعشور وماء النهر بدلا من الترحال والتنقُّل والبحث عن مرعى تقصده مياه السماء، فالجدة التي لم تعرف سوى أنهم يجلبون العبيد من جاوة، وقطع الصابون من غزَّة، ونسيج الكتَّان من بلاد القبط كانت تصنع بمتخيلها أغانيها التي تتحدث عن القدر واليأس والجدب والأوطان والموح والفراق والبكاء على أطلال الذاكرة، رغم أنها لم تعرف تلك الصحراء، ترسم الجدة خرائطها الخاصة، فأرض الهيش أسفل تلال "منازع"، والعلواية الحمراء تجاور خليج "محجوب"، وتربط كل الأسماء الواردة في خرائطها بشجرة نسبٍ ممتدة يصبح فيها محجوب ومنازع وغيرها من الأسماء في شجرة النسب هي الانتماء الحقيقي إلى رابطة الدم التي هي أساس التكوين القبلي، كانت ترى في شجرة النسب التاريخ الحقيقي الذي يجدر حفظه، ونقله والترنُّم به من جيل إلى آخر.
أهدتني جدتي ما يمكن أن يُسمَّى بالتوهمات المروية عن العربان، جغرافيا "عالم" لا يحتكم إلى التاريخ أو الجغرافيا الحقيقية على حقيقتها ينتمي إلى متخيلات جدتي التي لم تغادر بيت أبيها إلا إلى بيت زوجها الذى صار بيت ابنها، بيوت متجاورة، مغلقة على أسرارها، معزولة داخل متخيلاتها عن الماضي، وعن الوجود كله، ستصنع "جدتي" تاريخ البشر الخاص بها تاريخًا قائمًا على علاقات النسب وعلى أصالة العرق، ففلان ابن علان، وستقيم الفوارق الطبقية الخاصة بها وتختصر مجمل علاقتها بالبشر على أساس عروقهم فهؤلاء "صعايدة" وهؤلاء "غرابوة" وهؤلاء "غجر" وهؤلاء "فلاحون"، مُجْمِلَةً في النهاية ما يمثلونه لها بعبارة وجيزة "حبايبنا وطول عمرهم خدَّامينا" فما القبلية إذا لم تكُن انعزالاً داخل (جيتو) ضيق لمفاخر مضى عليها الزمن؟
وتوضح الطحاوي "ليست الصحراء التى أقصدها سوى تلك الثقافة القبائلية التي تحكم موقعنا من الوجود، حملناها معنا نحن العربان الذى وفدنا على الحاضرة بحثًا عن مرعى وكلأ على حواف النهر، بعدما أمحلت نجد، وكان علينا غزل تغريبة جديدة، حملنا معنا بيوت الشعر ونصبناها أمام بيوت الطين، بدو بلا صحراء، وإقطاعيون يحتقرون الزراعة، ويتعالون على فلاحي مصر، ومر الزمن ومازلنا "نحن" بعباراتنا القديمة حيث البداوة جزءٌ من تراث قيمي يصعب إسقاطه أو مُساءلته. هل يمكنني أن أكتب ما يقارب موقعنا "كعرب" وبدو كان عليهم أن يعيشوا تلك العزلة داخل تلك الثقافة الزراعية المستقرة، هل يمكنني أن أستقصي جذُور الصراع، أسباب الكراهية بين من تشاركا العيش والملح نفسه لقرون؟ الإحالة من العينة الضيقة إلى مقولات أكثر استفاضة كان هاجسي للبحث، اختصار أزمة وجود أقلية بما تمثله تلك الشريحة من إيحاءٍ ضمني بالكل.  

Sociology
ميرال الطحاوي

وتقول: كنت أعرف ضمنيًّا أنني أنتمي إلى جماعة بشرية لا أستطيع توصيفها، فهم قطعا ليسوا فلاحين، سواء أكان ذلك يعني ضمنيا أعيانا أم بسطاء، بل هي جماعة بينها وبين الفلاح المصري ثارات وإحن، وليسوا بدوًا كما تلقي هذه الكلمة بظلالها الدلالية، ولا يكونون طبقة أرستقراطية مرتبطة بالفرنجة والحياة الأوروبية، كما أنهم يتفاخرون بأرستقراطيتهم القبلية التي تمتد إلى بطون قبائل كان لها أيامها وصولاتها في كتب التاريخ، لكن ذلك التاريخ قد لا يعني شيئا، فمازالت مدرستي، مدرسة بشارة الابتدائية (التي أسموها على اسم جدي) كومًا من الرمال والطمي والمقاعد المتهالكة، أما المدرسة الثانوية التي تخرجت فيها فتقع في أحراش عزبة جبلية تسمي (عزبة التل) كان عليَّ أن أسير إليها عدة كيلومترات بين المقابر الفرعونية المفتوحة، والتي يطلق عليها البعض تلال الفراعين، ويعتقدون أنها كانت معبدًا للإله الفرعوني "بس" إله الضحك والنسيان، كانت بيوت القبيلة تتناثر هنا وهناك في ربوع هذا الإقليم الكبير شرق النيل الذي كان يطلق عليه أيام الفتح الإسلامي (الحوف الشرقي)، كان ذلك الحوف هو المنزل الأول للقبائل العربية التي ارتبعت وعاشت واستقرت واستولت على إقطاعات من الأرض وبنوا مزارع خيولهم ومضائف بيوتهم على أطلال مدن كانت معابد لآلهة قديمة، عندما استوطن العربان هذا الإقليم أقاموا قراهم وجيتوهاتهن القبلية وانقسم المتحدرون من كل قبيلة من المستوطنين إلى فروع أصغر ثانوية أعطت أسماءها المتميزة للقرى والمناطق التي عاش فيها سكان القبيلة. 
وتلفت الطحاوي إلى أن كل قبيلة في هذا الحوف الشرقي حفرت نصيبها من الصحراء وحدودها التي تنتهي إليها مراعيها الخصبة. "فلا عجب إذا نشأت المنازعات بين القبائل المتجاورة على حدود أراضيها" ولا عجب أيضًا إذا خاضت تلك القبائل منازعات مع محيطها من الفلاحين المستقرين، وتبادلا معًا علاقة معقدة مليئة بالتقدير والاحتقار معا. كانت تلك القبائل خليطًا من عرب الجنوب الأكثر تواضعًا وبساطة وعرب الشمال المحاربين الذين تم استقدامهم في مراحل تاريخية متأخرة، ولم تكن العلاقة بين الفريقين تحمل أيَّ قدرٍ من التجانس فقد كان بينهم فجوة طبقية وقبلية وازدراء وعداء امتد إلى حروف وأحلاف لم يستطع الإسلام رغم حرصه على خلق روح العدالة على أن يمحو تبعاتها العنصرية، بعضهم احتفظ بطبيعته البدوية، وبعضهم استفلح ونسي أحلافه وأصوله القبلية (معظمهم من عرب اليمن) وبعضهم تشدَّد في عنجهيته وتفاخر بأصولها القريشية، القيسية وتاريخها القتالي في تاريخ التصارع القبلي، بعض تلك القبائل (الأقل في التراتبية القبلية) سمحت لنفسها بالاندماج في الحياة المصرية، ولم يحتفظوا بأسطورة النقاء القبلي بل انتهكوا نقاوة عرقهم فتزوجوا من الأقباط المهتدين إلى الإسلام المتحدِّرين منهم لذلك تراهم منبوذين غالب الأحيان من جانب القبائل التي سكنت هذه البلاد، فيطلقون عليهم ازدراء (الفلاحين) في الوقت الذي يعرفون أنفسهم بالعرب أو البدو.
وتؤكد الطحاوي: البداوة لم تكن خيارًا مكانيًّا أموضع فيه نفسى ككاتبة لادِّعاء الجِدَّة أو الغرابة، ولم تكن أرضًا معرفية وطأتها لأجترها بسهولة، كانت البداوة ثقافة مروية في الحواديت والأهازيج والأغاني التي لا تشبه ما يشكِّل وجدان الآخرين حولي وتؤكد انتمائي الثقافي الخاص. تلك الغناوة التراثية هي ما شكَّلت تلك الهوية الثقافية الخاصة وعبَّرت عنها، وحفرت تأثيرها عبر مستويات أعمق من الملبس والمأكل والفولكلور، تلك الثقافة لها منظومتها القيمية التي نضجر منها، أو نسخر ثم يقودنا الحنين إلى محاولة فهم أو محاورة قيمها السالبة والموجبة معًا، هكذا أضع نصي عبر عالم يراوح بين قيمة العشائرية والقبائلية وتعاطي المدنية في حاضرة يراوغها بالتعالي عليها والعُزلة عنها.
الاضطرار للتعايش مع النقيض وهو الهاجس الذي شكَّل تاريخ القبائل العربية في مصر لم يكن سوى الاضطرار للانسحاق في هذا الوعاء الثقافي الضخم الذى اختلط فيه معمار النجوع القبلية بالقرى في دلتا مصر، لكن ذلك الهاجس الذي يطلق عليه الاندماج، والذي كان حتميًّا بطبيعة الحال لم يدفع تلك القبائل إلى الاستسلام فقط كان عليها أن تحفظ تاريخها وتراثها الخاص وتتوارثه مرويا، صوت جدتي يرف فيها بالمغاني التي تحمل هذا الحنين الضاري للخلاء والجمال والصحراء المفقودة كان ذاكرة هذا التاريخ الذي لا يمكن محوه.