كادت أن تكون اتفاقات وطنية

الجنرال/الرئيس عون أهمل اتفاقيه مع القوات والمستقبل وصان "تفاهم مار مخايل" مع حزب الله برموش العيون.

لماذا اتفاق التيار الوطني الحر صمد مع حزب الله وهوى مع تيار المستقبل والقوات اللبنانية؟ هل السلاح هو معيار صمود الاتفاقات؟ منذ أن أسقط الموارنة "المارونية السياسية" بأحقادهم العائلية والحزبية وببنادقهم التي قتلت بقدر ما قاتلت، نجح العماد فالرئيس ميشال عون - وهو أحد الذين شاركوا في إسقاطها - في ترميمها إلى حد معين بين سنتي 2006 و2016.

وخلافا لما يظن البعض، لم تحصل عملية الترميم من خلال الانتصارات الواسعة التي حققها تيار الجنرال في الانتخابات النيابية الثلاث الأخيرة فقط (2005، 2009 و2018)، إنما عبر الاتفاقات الثلاثة الأخيرة التي عقدها الجنرال سنة 2006 مع حزب الله ("تفاهم مار مخايل")، وسنة 2015 مع حزب القوات اللبنانية (إعلان النيات)، وسنة 2016 مع تيار المستقبل (التسوية الرئاسية). فالانتخابات هي انتصارات داخل المجتمع المسيحي، أما الاتفاقات فهي - وهكذا يفترض أن تكون - إنجازات وطنية مع الشركاء في الوطن.

اتفاقات الجنرال عون مع القوى الثلاث الأبرز في مجتمعاتها الثلاثة، المسيحية والشيعية والسنية، نقصها لتكتمل اتفاق رابع مع القيادة الدرزية الأكثر تمثيلا. أكان عدد المكون الدرزي في لبنان مليارا أم ألفا، فإنه يبقى أحد المكونين التاريخيين للكيان اللبناني. وأي تفاهم وطني في غيابه يفتقد دمغة التاريخ.

صحيح أن هذه الاتفاقات أدت إلى انتخاب العماد عون رئيسا ذا صفة تمثيلية شاملة، لكن قيمتها الأساسية أنها فرصة لإحياء صيغة الميثاق الوطني بأبعاد جديدة. لذا، كان يفترض ألا يقتصر مفعولها على انتخاب رئيس، بل أن تؤسس لانتخاب لبنان جديد ذي صفة وطنية شاملة.

الاتفاق الأول مع حزب الله شكل خرقا مميزا في التركيبة اللبنانية المبنية أصلا على ثنائية مسيحية/إسلامية تتخطى الطوائف المسيحية والمذاهب الإسلامية، فجاء "تفاهم مار مخايل" يعزز مشروع "المثالثة" المندس أصلا في "الطائف"، ويطلق أول تحالف مسيحي استراتيجي مع المكون الشيعي ببعده الإقليمي الإيراني على حساب التحالف القديم بين المسيحيين والسنة ببعده العربي. وإذا كان الخيار السني/العربي جعل المسيحيين اللبنانيين، وعبرهم كل مسيحيي الشرق، جزءا من مشروع الأكثريات العربية، فالخيار الشيعي/الإيراني نقل المسيحيين، احتياطا، إلى مشروع الأقليات المشرقية، وهو مشروع لا يقتصر على العرب والمسيحيين والمسلمين.

الاتفاق الثاني مع حزب القوات اللبنانية أمل أن يطوي صفحة الاقتتال بين المسيحيين، وتحديدا الموارنة، وصفحة هزائمهم أيضا منذ استشهاد بشير الجميل، وأن يضع، بالتالي، حدا لتهميشهم السياسي والإداري. فالمسيحيون لم يهزموا سنة 1990 لأنهم كانوا ضعفاء بل لأنهم كانوا منقسمين. فلو حصل آنذاك تحالف بين عون وجعجع لكانا وصلا إلى قلب الشام، فيما "حرب الالغاء" أعادت الشام إلى قلب لبنان. لكن "إعلان النيات" أرجع الوزن المسيحي إلى التوازن اللبناني، وأصبح القرار الوطني يمر حتما بالقيادات المسيحية ذات الصفة التمثيلية، وصار زعيم مسيحي قوي مثل ميشال عون يصل إلى رئاسة الجمهورية.

الاتفاق الثالث مع تيار المستقبل لم تصدر عنه وثيقة وطنية خلافا للاتفاقين السابقين، لكن تبين لاحقا أنه يحوم حول "ميثاق إنمائي" كالكهرباء والاتصالات والنفط. وأظهر هذا الاتفاق قدرة الجنرال عون على عقد تحالف مع طرفي الصراع في لبنان والمنطقة (السنة بعد الشيعة) من دون أن يغضب أيا منهما، لا بل رحب حزب الله بالنبأ السار أكثر مما رحب به السنة.

الطريف أن أسماء الاتفاقات الثلاثة تعبر عنها. فالاتفاق بين التيار الوطني الحر وحزب الله دعي "تفاهما" ما يعني أن قبولا متبادلا حصل حول النقاط الخلافية. والاتفاق بين التيار والقوات سمي "إعلان نيات" ما يعني اكتفاءه بطرد النيات السيئة علنا وإزالة الشكوك وتصفية القلوب مع بقاء النقاط الخلافية. والاتفاق بين التيار والمستقبل وسم بـ"التسوية" ما يعني أن الخلاف السياسي حيد، ودورت الزوايا ليصل عون إلى رئاسة الجمهورية والحريري إلى رئاسة الحكومة.

في كل الأحوال، كادت هذه الاتفاقات الثلاثة أن تعيد الدور الريادي التاريخي للمسيحيين عموما، وللموارنة خصوصا. فقبل هذه الاتفاقات التي "حررها" العماد عون، كان المسيحيون شبه ملحقين بـ 8 و14 آذار، حيث كان القرار للشيعة وللسنة بقيادتيهما القطرية والقومية. لكن التيار الوطني الحر - على أساس أن الجنرال أصبح رئيسا - أهمل اتفاقيه مع القوات والمستقبل وصان "تفاهم مار مخايل" برموش العيون. أكان يفترض، ليبقى الاتفاق قائما مع القوات والمستقبل، أن يقبلا بكل ما يملى عليهما.

الحقيقة، أن حزبي القوات والمستقبل لم يقعا مع التيار الوطني الحر بما وقع هو به مع حزب الله: فالجنرال عون أكمل في "تفاهم مار مخايل" رغم فشله في تعديل نهج حزب الله؛ بينما القوات والمستقبل لجما التسوية الرئاسية و"إعلان النيات" حين فقدا الأمل من استعادة التيار من جاذبية حزب الله. والحقيقة الأخرى، أن التيار يعتبر اتفاقه مع حزب الله جزءا من مشروع إقليمي آت، فيما اتفاقه مع القوات والمستقبل جزء من مرحلة انتخابية مضت. فأعطى التيار طابعا تاريخيا لـ"تفاهم مار مخايل"، وأثار الخلاف التاريخي مع القوات اللبنانية (دورها في المجتمع المسيحي والدولة) ومع المستقبل (تفسير اتفاق الطائف).

كان يجدر بالرئيس عون أن يرفق هذه الاتفاقات بآلية تنفيذية فلا يكون أي اتفاق على حساب آخر. وكان يجدر بالرئيس عون أن يحول الاتفاقات الثلاثة إلى فعل وطني يعيش بعد الانتخابات الرئاسية، وأن يضعها في مصاف الاتفاقات الاستراتيجية الداخلية، ويدعو إلى عقد هيئة الحوار الوطني. لكن هيئة الحوار غير مرغوب فيها تحاشيا لطرح الاستراتيجية الدفاعية وحزب الله لا يريدها، ولتعديل اتفاق الطائف وتيار المستقبل لا يريده.

كان أهم لفخامة الرئيس أن يذهب إلى الأمم المتحدة على رأس هذه الاتفاقات الوطنية من أن يذهب إليها على رأس حكومة مؤلفة. فجميع الرؤساء ذهبوا بحكومات، لكن أيا منهم لم يذهب بمثل هذه الاتفاقات. في الحالة الأولى يكون الرئيس رمز البلاد، أما في الحالة الثانية فيكون رمز الكيان والصيغة والوطن أيضا.