كافافيس شاعر اليونان والإسكندرية

الشاعر اليوناني السكندري قسطنطين بيروس كافافيس احتل مكانة خاصة لدى الأدباء المصريين والشعراء منهم خاصة.
الحيز المكاني في قصائد كافافيس يمتد متجاوزا المفردات الشيئية ليكتسب رحابة في الزمان والمكان غير مقيدة بالأطر الطبيعية
المشهد في قصيدة كافافيس حالة نفس قبل كل شيء 

احتل الشاعر اليوناني السكندري قسطنطين بيروس كافافيس "1863 ـ 1933" مكانة خاصة لدى الأدباء المصريين والشعراء منهم خاصة، وقد حظي بأكثر من ترجمة لأعماله فضلا عن الدراسات التي تناولت هذه الأعمال، كما احتفى به الكثير من الشعراء في قصائدهم، ويطلق عليه شاعر الإسكندرية حيث ولد وعاش في مدينة الإسكندرية ودفن بها، وبيته الآن الذي قضى فيه الـ 25 عاما الأخيرة من حياته مزارا للشعراء والأدباء والمثقفين والإعلاميين من كل بقاع الدنيا، هذا البيت الذي يقع بالقرب من حي كوم الدكة، في شارع ليبسيوس الرافد الصغير المتفرع من طريق الحرية، بيت قديم كتب عليه رقم 4 وثبتت على بابه لوحة رخامية تحمل عبارة "في هذا المنزل قضى السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من حياته الشاعر السكندري ق. ب. كافافيس".
وضمن إصدرات سلسلة آفاق عالمية الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، تم إعادة إصدار واحد من أهم الكتب التي درست وترجمت مختارات لكافافيس، وهو كتاب "قصائد من كافافيس.. دراسة وترجمة عن اليونانية" وذلك للكاتب والمترجم القدير الراحل د.نعيم عطيه، الذي قدم له بسيرة كافافيس، ولادته وصباه وحياته الأسرية مع والدته وتعليمه وبدايات تجربته الشعرية ومراحل تطورها، لينتقل بعد ذلك إلى دراسة تحليلية في قصائده فيتناول تأثيره على الشعرية اليونانية، والبصر والبصيرة في شعره وكذلك القصيدة التاريخية ومفهومه للفن والجمال ورمزية مدينة الإسكندرية، ليغطي ـ تقريبا ـ تجليات القصيدة الكافافيسية كافة.

ثلاث عشرة دراسة في ثلاثة عشر فصلا قدمها عطية قبل أن يقدم مختاراته لكافافيس والتي امتدت مما قبل عام 1911 حتى عام 1933 عام رحيل كافافيس

يقول عطية "تميز الحيز المكاني في قصائد كافافيس بأنه رغم تكونه من مفردات واقعية إلا أنه في النهاية يمتد متجاوزا هذه المفردات الشيئية ليكتسب رحابة في الزمان والمكان غير مقيدة بالأطر الطبيعية، فالطبيعة عند كافافيس سواء كانت مما يسمى بالطبيعة الصامتة، كالأريكة، والمصباح، والمرآة، والنافذة والشمعدان والمنضدة، أو كانت طبيعة حية، وهي في أغلب الأحوال مشاهد داخلية، من غرف، ومقاه، ودرجات سلم، وما شابهها هي في جوهرها الشعري مشاهد نفسية، أي لا توجد في الخارج بقدر ما توجد في أعماق الشاعر، ولهذا عرف كافافيس بشاعر الطبيعة السيكلوجية، فالمشهد في قصيدته هو حالة نفس قبل كل شيء أو هو، وإن كان قد استقى من الواقع المعاش، إلا أنه قصد أن يكون تعبيرا عن حالة النفس.
ويشير إلى أن الفن الشعري لدى كافافيس يقوم إلى حد بعيد على الصورة، وتتوسط هذه الصورة مرحلتين، تكون هي همزة الوصل أو الجسر الموصل بينهما، ولنضرب مثلا على ذلك بما فعله كافافيس في قصيدته "البحر في الصباح" تبدأ القصيدة بالتقاط الطبيعة الخارجية ثم تتحول هذه الطبيعة إلى لوحة ذات مفردات واقعية، ثم لا تلبث أن تغوص في أعماق الشاعر الداخلية لترقى إلى ما هو أبعد من مجرد منظر عادي فحسب، سوى نرى إذن في هذه اللوحة على سبيل المثال، كيف توظف العين لالتقاط مفردات من الطبيعة، لتدفع بها البصيرة إلى مستوى مثالي متعد للواقع البصري وأكثر عمقا وها هي القصيدة "البحر في الصباح":
"فلأقف هنا، ولأرى أنا أيضا الطبيعة مليا
شاطئ بحر رائع، أزرق أصفر، في الصباح، سماؤه صافية
كل شيء جميل مفعم بالضياء
فلأقف هنا، ولأخدع نفسي بأني أرى هذه حقا، ولأرى خيالاتي ومتعة وهمية".
ويبدأ عطية في تحليل القصيدة مؤكدا أنها تحمل معاني ودلالات، بل وأكثر من ذلك هي قادرة على النفاذ إلى الوجدان والقلب، أكثر من الاكتفاء بمخاطبة العقل. ويخصص فصلا بعنوان "أليس معاصرا كل شعر حقيقي" يحلل فيه قصيدة كافافيس الشهيرة "في انتظار البرابرة"، التي جاء فيها:
ما الذى ننتظره فى السوق محتشدين؟
لأن البرابرة يصلون اليوم
***
وفى مجلس الشيوخ لماذا هذا الاعراض عن العمل؟ لماذا جلس الشيوخ لا يسنون التشريعات؟
لأن البرابرة يصلون اليوم، 
وما جدوى من أن يسن الشيوخ التشريعات، ما دام البرابرة عندما يحضرون سيسنون هم التشريعات؟
***
لماذا صحا إمبراطورنا مبكرا هذا الصباح؟ وجلس عند البوابة الكبيرة في المدينة، على عرشه مرتديا تاجه وزيه الرسمي؟
لأن البرابرة يصلون اليوم
والامبراطور فى الانتظار ليستقبل رئيسهم، بل وأعد الامبراطور العدة كى يمنحه شهادة فخرية يضفى عليه فيها رتبا وألقابا.
يرى عطية أن هذه القصيدة تظل وستظل تؤمي إلى حقيقة إنسانية متجددة، وهي الانتظار المحبط، فالإنسانية ستظل على الدوام، وفي لحظات كثيرة من تاريخها المقبل تنتظر "الذي يأتي ولا يأتي"، تنتظر حلا أو أملا، قد لا يقبله العقل بقدر ما تهتف منادية به العواطف والتخمينات والغرائز، وسوف تكون للرومانسية إذن وجود دائم في الكيان البشري مهما بلغت الواقعية والعقلانية والوضعية من شأن كبير. 
كان كافافيس تؤرقه فكرة المدينة، وكان يؤمن بأن المدينة الحديثة لم تعط الإنسان ما كان يتوق إليه من سعادة، ولعله في لحظة من اللحظات التي استبد به التشاؤم من مستقبل الإنسان المتمدن كتب هذه القصيدة.
ويلفت عطية إلى أن بعث لحظات التاريخ عند كافافيس يثير في نفس القارئ متعة جمالية لا يضارعه أحد في إثارتها، وهو يتقمص تارة شخصية البطل، وتارة أخرى يترك شخصيات التاريخ ذاتها تنطق بما يدور في أعماقها من أحاسيس وتأملات، وهي إذ تعبر عن مأساتها تعبر عن المأساة المتأصلة بأعماق الشاعر أيضا، وهكذا كانت قصائده التاريخية طريقا للهرب أيضا، ألقى بنفسه فيها ليخرج من إسار حياته اليومية الرتيبة، ويحيا لحظات في رحاب العصور الغابرة، ونذكر من قصائده في هذا المقام قصيدته "الملك ديمتربوس" التي كتبها عام 1911، وقصيدته "ملوك الإسكندرية" التي كتبها عام 1912، و"كليتوس على فراش المرض" وقصيدته " كاهن معبد سيرابيس" اللتين كتبهما عام 1926 وغيرها.
ثلاث عشرة دراسة في ثلاثة عشر فصلا قدمها عطية قبل أن يقدم مختاراته لكافافيس والتي امتدت مما قبل عام 1911 حتى عام 1933 عام رحيل كافافيس.

نماذج من كافافيس
** رغبات 
مثل أجساد جميلة، لم تدركها الشيخوخة،
ذرفت عليها الدموع، وهي تواري ضريحا فخم البناء،
على الهامات نضدت ورود، ونثر الياسمين عند الأقدام.
مثل أجساد كهذه هي الرغبات التي ولت 
دون وفاء، دون أن يقدر لها قط 
ليلة من ليالي المتعة، ولا حتى صباح من أصبحتها العامرة بالضياء.
** أصوات 
أصوات خفية حبيبة، أصوات أولئك الذين ماتوا، أو أولئك الذين هم بالنسبة إلينا ضائعون مثل الموتى،
تتكلم في حياتنا أحيانا، وأحيانا في الفكر يسمعها العقل.
ومع أصدائها تعود برهة أصوات من قصائد حياتنا الأولى، مثل موسيقى، بعيدة في الليل تخبو.
** دعاء 
ابتلع اليم في أعماقه بحارا.
ولم تعلم أمه بالخطب، فمضت تشعل أمام العذراء شمعة طويلة حتى يظل الجو صحوا ويعود ابنها سريعا.
وراحت الأم ترهف السمع للرياح، وتقيم الصلوات وتبتهل. 
على أن صورة العذراء المنصتة خيم عليها حزن وكآبة، فهي تعرف أن الفتى لن يعود.
** المدينة
قلت "سأذهب إلى أرض أخرى، سأذهب إلى بحر آخر، مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه. كل محاولاتي مقضي عليها بالفشل، وقلبي مدفون كالميت. إلى متى سيبقى فكري حزينا؟ أينما جلت بعيني، أينما نظرت حولي، رأيت خرائب سوداء من حياتي حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت.
لن تجد بلدانا ولا بحورا أخرى، ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها، وستدركك الشيخوخة في هذه الأحياء بعينها، وفي البيوت ذاتها سيدب الشيب إلى رأسك، ستصل على الدوام إلى هذه المدينة. لا تأمل في بقاع أخرى. ما من سفين من أجلك وما من سبيل. وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود.
** في القرية المضجرة
شاب في ريعان شبابه، يعمل مستخدما بمحل تجاري، في قرية مضجرة، لم يبق سوى شهرين أو ثلاثة، وتركد الأعمال.
شهران أو ثلاثة تنقضي، ثم يعود إلى المدينة، حيث ينكب توا على اللهو والصخب.
الليلة، في القرية المضجرة، ألقى بجسده على السرير. معانيا تباريح الهوى. استبد بشبابه عشق الجسد. وفي منامه تمثلت الطلعة التي تغياها، والجسد الذي اشتاق إليه.