كلّما عرفت اليمن... ادركت كم تجهله

كان من الخطأ ممارسة ضغوط دولية من اجل وقف معركة الحديدة.

هناك عودة الى الطريق المسدود في اليمن، وهو طريق مسدود منذ فترة طويلة في غياب تغيير على الأرض تفرضه تطورات ذات طابع عسكري قبل ايّ شيء آخر. ولكن هل خرج اليمن يوما من الطريق المسدود الذي دخله منذ استيلاء الحوثيين على صنعاء قبل اربع سنوات، يوم الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر من العام 2014 تحديدا؟

ليس معروفا بعد هل يمكن اعتبار فشل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث في عقد حوار مباشر او غير مباشر بين "الشرعية" والحوثيين في جنيف دليلا على انّه لا يعرف شيئا عن اليمن... او ان الامر يتعلّق برغبة في إطالة الحرب الدائرة في ذلك البلد البائس الى ما لا نهاية. هناك من يتحدّث عن رغبة في مزيد من التفتيت لليمن كي لا تقوم له قيامة في يوم من الايّام، علما انّ الذي يلتقون مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة يؤكدون ان الاولوية بالنسبة اليه هو ووقف القتال والتخفيف من عذابات اليمنيين.

توجد بالفعل أسئلة يطرحها يمنيون، بينهم من قابل غريفيث مرات عدّة، مرتبطة بقدرة الرجل على أداء الدور المطلوب منه. في النهاية هناك معادلة سياسية في منتهى البساطة. تقوم هذه المعادلة على انّ ليس لدى الحوثيين (انصار الله) ما يقدمونه من اجل المساهمة في قيام سلطة مركزية في اليمن وليس لدى "الشرعية" ما يمكن ان تسترضي به الحوثيين. هؤلاء يؤمنون بانّ لديهم حقّا الهيا بحكم اليمن، إضافة الى انّهم لا يمتلكون قرارهم. القرار الحوثي خارج اليمن. انّه في ايران وليس في ايّ مكان آخر. لذلك لا خيار آخر لدى "الشرعية" غير تغيير الوضع على الأرض في حال كان مطلوبا الوصول الى مرحلة يمكن فيها التفاوض جديا مع "انصار الله" من اجل وضعهم في الخانة التي يجب ان يكونوا فيها وجعلهم يأخذون حجمهم الطبيعي.

ليس هناك الى الآن سبب واضح يبرر فشل انعقاد الحوار الذي دعا اليه مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في جنيف في السادس من أيلول – سبتمبر الجاري باستثناء ان الرجل لا يعرف من هم "انصار الله" وما التجارب التي مرّ بها اليمن في السنوات القليلة الماضية. ليس معروفا كيف يمكن لمبعوث للامين العام للأمم المتحدة الدعوة الى لقاء في جنيف من دون ضمانات من المشاركين ومن دون تأمين كلّ الشروط لوصول هؤلاء الى المدينة السويسرية.

كان مفترضا في غريفيث ان يطرح منذ البداية ما الفائدة من لقاء بين الحوثيين و"الشرعية" في وقت ليس لدى الحوثيين ما يقدمونه او يطرحونه على الطرف الآخر. اذا كان مطلوبا التوصل الى تبادل للأسرى، فمثل هذا الامر لا يحتاج الى لقاء في جنيف، بل يمكن التفاوض بطريقة غير مباشرة بين الطرفين بغية التوصل الى اتفاق في هذا الشأن.

يصبّ كلّ ما يجري في اليمن هذه الايام في اتجاه إطالة الحرب الدائرة. الملفت انّ منطقة سيطرة الحوثيين خالية من أي حراك داخلي، على الرغم من ان وضع المواطنين المقهورين في حال يرثى لها على كل المستويات. كان علي عبدالله صالح الوحيد الذي حاول زعزعة السيطرة الحوثية على صنعاء. كانت النتيجة انّهم غدروا به في الرابع من كانون الاوّل – ديسمبر 2017 واسكتوا بذلك كل صوت يعترض على سلوكهم بالحديد والنار. اكثر من ذلك اخذوا اثنين من أبنائه، هما صلاح ومدين رهائن مع آخرين من افراد العائلة... كما يرفضون الى الآن تسليم جثمانه الى ذويه!

في وقت تبدو فيه الحاجة ملحّة الى إعادة تشكيل "الشرعية" لتكون في مستوى الاحداث، ليس في استطاعة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة تجاهل بعض البديهيات، اللهمّ الّا اذا كان بدأ يقتنع بانّه يقوم بمهمة مستحيلة. في مقدّم هذه البديهيات انّ الحوثيين لا يريدون التفاوض الّا استنادا الى شروط معيّنة لا يستطيع أي طرف يمني آخر تلبيتها او القبول بها. الاهمّ من ذلك كلّه، ان "انصار الله" ليسوا في وارد الاخذ والرد الّا في شأن امر واحد هو تثبيت القبول بهم كأمر واقع في شمال اليمن بعد فشلهم في التمدد جنوبا وصولا الى عدن.

اذا اخذ مارتن غريفيث هذه البديهية في الاعتبار، فضلا عن الاستفادة من تجارب المبعوثين اللذين سبقاه وهما جمال بنعمر واسماعيل ولد الشيخ احمد، لا يعود مفرّ من الوصول الى نتيجة واحدة. تتمثّل هذه النتيجة في انّ الضغط العسكري هو وحده الذي ينفع مع "انصار الله". لولا الضغط العسكري الذي مارسه "التحالف العربي" منذ آذار – مارس 2015، لكان الحوثيون الآن في المكلا وعدن والمخا ومناطق اخرى.

من هذا المنطلق، كان من الخطأ ممارسة ضغوط دولية من اجل وقف معركة الحديدة... هذا اذا كان مطلوبا في نهاية المطاف التفاوض مع الحوثيين الذين لا ينكر احد انّهم جزء من النسيج اليمني. هذا لا يعني في طبيعة الحال انّهم اليمن كلّه او انّهم يمثلون كلّ شمال اليمن. فبعد استيلائهم على صنعاء وممارساتهم ذات الطابع الغريب عن البلد، لن يتمكنوا في يوم من الايّام ان يكونوا الفريق المهيمن على أبناء المذهب الشافعي الذين يشكلون الأكثرية في اليمن، خصوصا في المناطق الوسطى والمحافظات الجنوبية.

كانت مشكلة اليمن، في جانب منها، الى ما قبل فترة قصيرة، ان ليس في الإمكان التفاوض مع الجانب الحوثي. الحوثيون تابعون لإيران من جهة وايمانهم، من جهة أخرى، بانّهم جاؤوا الى صنعاء قبل اربع سنوات من اجل إقامة نظام جديد يحيي النظام الامامي الذي كان قائما قبل السادس والعشرين من أيلول – سبتمبر 1962.

فاقم المشكلة عجز مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة عن التعاطي مع الواقع اليمني كما هو وليس كما يتصوره هو. فاليمن ليس بلدا عاديا وطبيعيا تنطبق عليه المقاييس التي يمكن ان تنطبق على بلدان أخرى. الأهم من ذلك كلّه ان الحوثيين ليسوا طرفا يمكن التفاوض معه والتوصل الى اتفاقات قابلة للتطبيق. من يحتاج الى دليل على ذلك يستطيع العودة الى "اتفاق السلم والشراكة" الذي وقعه الحوثيون مع "الشرعية" بعد احكام قبضتهم على صنعاء في خريف العام 2014. لم تمض ايّام الّا ووضعوا الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي في الإقامة الجبرية بعد اجباره على الاستقالة. حصل ذلك، علما ان الاتفاق وقع برعاية ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وقتذاك وحضوره شخصيا حفلة التوقيع. امّا المثل الآخر على مدى احترام الحوثيين للاتفاقات فهو مصير علي عبدالله صالح الذي اقام شراكة سياسية معهم...

اذا كان مارتن غريفيث يعتقد انّ اليمن بلد طبيعي، من الأفضل ان يستعين بما يقوله الذين لديهم خبرة سنوات مع هذا البلد وامضوا أياما طويلة فيه منذ ما يزيد على ثلاثين عاما. يقول هؤلاء: كلما عرفت اليمن، كلّما ادركت كم انك تجهله!