كنز من الرقي في 'شعراء أم كلثوم'

كتاب حنفي المحلاوي يخط منهجية مستقرة في تناول مفصل لشعر 45 من شعراء الفصحي والعامية تغنت بكلماتهم 'كوكب الشرق' قبل التنقيب عن أصل الشعر المغني ومسيرة تحوله الى طرب.

هناك بعض الكتب الجيدة التى تترك تأثيرها ويحتفي بها القراء، وُيعاد مطالعتها، وتقدير مادتها، ولا يتحقق هذا الأمر من فراغ، فهناك عوامل كثر تساهم في تحقيق نجاح الكتب، منها حسن إعداد الكاتب لمادته، وكدحه الثقافي العميق، وتغذية القراء بالمعارف والمعلومات، وأيضا في الأساس تقديم فكرة متماسكة تكون عمودا فقريا يلم أركان الكتاب، ويربط بين أعلامه وموضوعاته دون تشتت أو تجاوز يخرج بالكتاب عن قصديته. وأيضا أن تكون الفكرة مبتكرة لم يسبق تقديمها، أو تقديمها من جديد بمنهجية تثري القراء.

ومن هذه الكتب، كتاب "شعراء أم كلثوم" للكاتب حنفي المحلاوي، الذي يوضح فكرته منذ اللحظة الأولي، والرابط الحاكم بين موضوعات الكتاب، وهو تقديم الشعراء الذين تغنت بشعرهم سيدة الغناء العربي "أم كلثوم"، فحاز شعرهم شهرة طبقت الأفاق، يقول: "أن الشعر إذا ما خرج من الأوراق إلى الحناجر والأفواه يدوم أكثر.. ويستمر في الوجدان والأفئدة، حتى ولو مكتوبا بماء الذهب ومصحوبا بالرسوم الملونة".

وقد ُخط الكتاب منهجية مستقرة في تناول شعر 45 من شعراء الفصحي والعامية تغنت بشعرهم أم كلثوم، بداية بتقديم لمحة تاريخية عن اللقاء الأول للشعر مع أم كلثوم، وحكايات القصائد المغناه، وإحصائية القصائد والأزجال التي غنتها للشاعر، والفترة الزمنية التي استغرقها هذا الغناء، ولون تلك القصائد، ثم سرد للشعر المغني فعليا، وإذا كان الشاعر قد غنت له أكثر من قصيدة، يقدم أشهرها وأقربها للذائقة العامة، ومطالعة هذه النصوص متعة وكنز رفيع المستوي، أن يطالع القارئ هذا الكم من القصائد ذات الأغراض والمسارات والموضوعات والأساليب المنوعة مجمعة في كتاب واحد.

ثم ينقب الكاتب عن أصل الشعر المغني، والمطبوعات التي تضمها –إن وجدت- ويعقد مقارنة بين القصيدة وما قامت أم كلثوم بتعديله أو حذفه أو طلب إضافته، ويعد هذا الشأن من طرائف الكتاب، حيث كانت أم كلثوم ذواقة للشعر، على إلمام كبير باللغة العربية، ووعي تام بالضرورة الفنية، وقد اشتهر عنها هذا الأمر، حيث كانت شخصية فنية قوية لها رأي وتقدير للشعر، لدرجة أنها قد تمزج بين أكثر من قصيدة للشاعر، كما فعلت مع الشاعر الأمير عبدالله الفيصل، عندما غنت رائعته "ثورة الشك" المنتخبة بعنوان مستجد من خمس قصائد. هذه الأغنية الرائعة التي ضمت صور شعرية تدرس فى التركيب الشعري والرقة، نموذجا: "من بريق الوجد في عينيك أشعلت حنيني" والتى تضم ستا من الصور الشعرية الجزئية من أطياف المجاز الشعري الفائق في جمالياته التعبيرية.

ويكفي أن يقف القراء علي ملامح هذا الكنز الشعري عندما قدم الكتاب قصائد للشعراء ابن النبيه المصرى وعمر الخيام والشريف الرضي والعباس بن الأحنف ونزار قباني وباكثير وجورج جرداق وإقبال وأحمد رامي، وشوقى وحافظ، وعلي الجارم، وناجي وعزيز أباظة، وصالح جودت، وكامل الشناوي، وأحمد فتحي وبيرم التونسي، وجاهين وأحمد شفيق كامل، وعبدالوهاب محمد، ومرسي جميل عزيز، وغيرهم.

وفي قصائد أخرى شمل التعديل والحذف والإضافة إنشاء قصيدة مطورة، وبالطبع هذا لا ينفي عن الشاعر حقه الفكري، أو أصالته الإبداعية، فالتعديل والشطب والإضافة بكلمات قليلة ليست إبداعا ولا تسلب الكاتب صاحب الحق تقديره أو ابداعه، بل هي تدخل في إطار الحرفية والمهارات الكتابية. وأستشهد أيضا بالروائي والقاص المعروف إحسان عبدالقدوس، والذي مجمل الأعمال الدرامية والسينمائية فاق كتبه ال 57 لأن قصصه القصيرة تحولت لأعمال درامية أيضا، نموذجا قصته القصيرة "إمبراطورية ميم" في المجموعة القصصية "عقلي وقلبي" المشكلة فى ثلاث صفحات، والتى لا تشبه الفيلم المعروف إلا فى "الزتونة الإبداعية" وهى انتخاب بطل القصةرب المنزل بناء على رغبة أبنائه في تطبيق الديمقراطية داخل المنزل. ولم يسلب هذا حق صاحب الفكرة، كما كانت تفعل أم كلثوم فتعدل كثيرا وتطلب الإضافات وتقوم بالحذف لكنها لا تسلب الشاعر حقه الأكيد وتغني شعره الأصيل ليصل إلى ملايين الآذان عبر عشرات السنين.

كبسولة مننقاه التاريخ الشعري العربي، وأهم علاماته وأيقوناته الزاهرة

وهذا التدقيق في المراجعة وإعادة المراجعة مرات يخبر عن قيمة إجادة العمل والإخلاص له، وما يقدمه مثل هذا الجهد من ثمرات ناجعة، ورؤي فنية متألقة، فأحيانا تظل القصيدة بالسنين تدرس وتناقش، ويجرى حولها المداولات والشد والجذب بين أم كلثوم وفريق العمل في كل قصيدة، كأنها لجنة تحكيم منصفة لا تحكمها الأهواء والمجاملات السقيمة. نموذجًا: أنها لما زارت السودان عقب هزيمة 67 للدعم الوطني النبيل الذي قامت به، ورأت حفاوة أهل السودان الكرام بفنها، أرادت أن تغني قصيدة لشاعر سوداني، فكلفت الشاعر/ صالح جودت للبحث عن قصيدة سودانية، فاجتهد وجمع سبعا من الدواوين لسبعة شعراء سودانين، وانتخب منها سبعة قصائد وسلمهم لأم كلثوم لتختار منها حتى لا يكون منحازا لشاعر بعينه. لكنها بعد أيام أصرت أن تعرف رأي صالح جودت أولا فاختار قصيدة "الهادى آدم" الجميلة "أغدا ألقاك؟!"، فقالت له بخفة ظل: "برافو علي فهذه هى القصيدة التى اخترتها بالفعل"، وظلت سنة تدرسها مع فريق عمل مشكل من الشاعر والفنان محمد عبدالوهاب وصالح جودت، في ورشة أدبية رفيعة المستوي من أجل رحلة المطبوع إلى المسموع المغني، حيث كما يقول الكتاب: "وقرأوا القصيدة مرة واثنين وثلاثا وعشرا وعدلوا وبدلوا وقدموا وأخروا، إلى أن استقروا علي الصورة النهائية".

ومن طرائف الكتاب الكثر أيضا حول الشاعر الصامد "مأمون الشناوي" الذي رفض تماما عمل تعديلات في قصائده كطلب أم كلثوم، فيحيل القصائد لمطربين آخرين مثل قصيدتي "حبيب العمر" و "الربيع" والذين غناهما فريد الأطرش. وظل عشر سنوات يمتنع أن تطال قصائده إرادة أم كلثوم الفنية، ثم لحقه الندم وقبل بتعديلات له علي قصائد غنتها أم كلثوم، واستسلم أخيرا إلى "إرادة أم كلثوم الحديدية" بتعبير الكتاب، فشدت له بروائع "أنساك"، و"بعيد عنك" وغيرها.

ولا شك أن التبحر في ردهات الكتاب، يقدم للقارئ في كبسولة مننقاه التاريخ الشعري العربي، وأهم علاماته وأيقوناته الزاهرة، وقصائده التى سكنت وجدانات العروبة وأفئدة محبي التطريب عبر عقود طوال، وما زالت تجد لها محبيها حتى الساعة، ولسنا بشأن تمحيص تخرصات وخيالات مريضة، فالذي يعني هو الفن المقدم، والكلمات الراقية المشجية ذات الفن الشعري الأصيل، والنماذج أكثر أن تحصي.

في أغنية "هذه ليلتي" نجد المعنى النفسي العميق، وتثوير البصيرة الرومانسية: "فادن منى وخذ إليك حنانى / ثم أغمض عينيك حتى تراني"، وللشريف الرضي غنت أبياته الرقيقة الطالعة بشطر: "قولى لطيفك ينثني / من مضجعي وقت الرقاد / كى أستريح وتنطفى / نار تأجج في الفؤاد"، وقد اختار الروائي الكبير "صلاح ياسين" شطر بين من القصيدة المغناة ليكون عنوان روايته الجميلة "أما أنا فكما علمت".

وفي ميادين الأخلاق نستمع الصوت الأثير، والمعني الكريم الذي نعوزه في زماننا كثيرا: "إذا الإيمان ضاع فلا أمان / ولا دنيا لمن لم يحى دينا / ومن رضى الحياة بغير دين / فقد جعل الفناء له قرينا" فكان كما قالت القصيدة الرائعة: "كلام الروح للارواح يسرى / وتدركه القلوب بلا عناء"، أو "الرضا والنور"، أو المعاني الوطنية المحفورة في أفئدتنا رغم كل الأتراح: "مصر تتحدث عن نفسها" و "الله زمان يا سلاحي" وغيرها من فرائد الفكر الشعري والأصالة الفنية.

كما اقتنت منهجية الكتاب حسن التقسيم الزماني والموضوعاتي مع الترتيب في أبواب ومقدمات قصيرة توضح متن المنهج وطريقة التفكير في الكتابة لتلك الأبواب بالتقسيم لبابين شعراء الفصحي الذي ضم شعراء من التراث، ومعاصرون من البلاد العربية والإسلامية، ثم شعراء من مصر، أما الباب الثانى "شعراء العامية" فيضم شعراء من الهواة وشعراء محترفون، يغذى هذا جميعه كدح ثقافي والدال عليه قائمة المراجع والتى ضمت 79 مرجعا بين دواوين الشعراء والكتب والموسوعات والدوريات والصحف.

وتكتمل "دائرة المعرفة فوق الأوراق" بتعبير الكتاب، وتختتم منهجيته بتقديم نبذة يسيرة عن الشاعر المغناة قصائده، ومن يطالع الكتاب يلم بملامح أدبية وشذرات ملخصة حول أهم علامات الكتابة الشعرية العربية بعامة. ويصعب فى مقال عرض شتى صنوف الكنز، لكن نكتفى بقول الكاتب: "والحديث عن الشعر والشعراء له مذاق وطعم خاص، باعتباره كان ولا يزال المصدر الرئيس للمتعة الفكرية والذهنية والروحية والعاطفية"، وفي طيات هذه الفكرة نبع ولاشك حديث الكتاب عن الشعر الجميل.