كوبا وأنغولا علاقة كاشفة لتاريخ قارتين: أفريقيا وأميركا اللاتينية
تأتي هذه الدراسة "العلاقات الكوبية الأنغولية 1964 ـ1991" للباحث السعودي د.خالد عبدالفتاح سيد كدعوة لمجتمع الباحثين والدراسين لتاريخ العلاقات الدولية للنظر إلى تاريخ العلاقات بين القارة الأفريقية وأميركا اللاتينية وما حولها من دول الكاريبي. أميركا اللاتينية تلك القارة البعيدة جغرافيًا المتشابهة معنا في ثراء موروثاتها الثقافية وحضاراتها القديمة، والتي تعرضت أيضًا الى عوامل الغزو وهيمنة الاستعمار القديم والحديث.
كما تأتي هذه الدراسة كمحاولة لتأصيل العلاقات العربية اللاتينية والعلاقات الأفريقية اللاتينية من خلال عمل البحوث والدراسات المتعلقة بهذه الجوانب. كما تفتح آفاقًا للتعرف على بعض القضايا، التي ذكرت في الدراسة، ولكن بشكل موسع عن طريق إنشاء دراسات وبحوث مستقلة للتعرف على كواليس بعض القضايا التي ساعدت في إنجاز المهام السياسية والعسكرية والاقتصادية في أفريقيا عمومًا، وجنوب غرب أفريقيا خصوصًا.
يوضح سي أنه بعد انتصار الثورة الكوبية، اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بإئتلاف حركة 26 يوليو/حزيران كحكومة شرعية لكوبا، وذلك في 7 يناير/كانون الثاني 1959، وعلى إثر هذا الاعتراف زار فيدل كاسترو الولايات المتحدة الأميركية في 17 أبريل/نسيان 1959، حيث قابل نائب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الذي اصبح فيما بعد الرئيس الأميركي الـ 39 - وناقش معه تطورات الأوضاع الكوبية، وحاول التخفيف من حالة الغضب الأميركي ضد قرارات التأميم، وإحداث نوع من التفاهم بشأن وضع الشركات الأميركية التي تم تأميمها من قبل الحكومة الثورية الكوبية، إلا أن المباحثات باءت بالفشل. وعندما أدركت القيادة الأميركية توجهات حكومة الثورة الكوبية الموالية للاتحاد السوفيتي، وأن البلدين في طريقها لعقد حلف بينهما، انتهجت الولايات المتحدة سياسة معادية، وقررت الإدارة الأميركية في اتخاذ خطوات عدائية تصعيدية لإسقاط نظام فيدل كاسترو، لتأمين مصالحها الاقتصادية في كوبا بشكل خاص ولتأمين خاصرتها الجنوبية من المد الشيوعي بشكل عام. كانت أولى هذه الخطوات توقيع عقوبات اقتصادية ضد الدولة الكوبية الوليدة، استهدفت تقويض النظام القائم، فعرقلة اصلاحاته الاقتصادية، ووضعت امامه العراقيل والعقبات؛ لإحداث حالة من السخط الشعبي ضد نظام كاسترو، تؤدي إلى ثورة، مما يعجل بسقوطه، وكان من بين هذه العقوبات الاقتصادية خفض حصة شراء الولايات المتحدة للسكر الكوبي، وقرارات بحظر توريد جميع المواد الخام والاولية من غذاء ودواء للدولة الكوبية، إلا أن هذه العقوبات لم تؤثر بشكل ملحوظ على الدولة الكوبية، وذلك بسبب الرحلات المكوكية التي قام بها تشي جيفارا نحو الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية لبناء علاقات اقتصادية وسياسية، كان الهدف منها كسر العقوبات والحصار الأميركي.
ويضيف أنه بعد فشل الإجراءات الاقتصادية المضادة لنظام فيدل كاسترو، اقترحت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور برنامج عمل جديد ضد الحكومة الكوبية في مارس 1960، وذلك من خلال دعم المعارضين والمنفيين الكوبيين المعارضين لنظام كاسترو تحت إشراف وتدريب الوكالة، لبناء كيان كوبي سياسي معارض موازي، يكون له القدرة على إسقاط حكومة كاسترو والتأثير والسيطرة على مقاليد الأمور في الجزيرة الكوبية تحت مسمى "إعادة الثورة". وأقرت الإدارة هذا المقترح، وأوجبت تنفيذه خلال 6 – 8 أشهر، ومن ثم تم تشكيل مجلس سياسي من الكوبيين المنفيين في الولايات المتحدة، لديهم القدرة والكفاءة على إدارة مقاليد الأمور عندما تتهيأ الأوضاع لذلك، لذا تم اختيارهم بعناية من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، تلا ذلك تنفيذ عمليات بث إذاعية دعائية مناهضة لنظام كاسترو عبر الموجات طويلة المدى، وتزامنًا مع ذلك تم بناء نقاط رصد ومراقبة داخل الأراضي الكوبية بالتعاون مع المعارضين لنظام كاسترو، فضلاً عن إنشاء معسكرات خارج الولايات المتحدة في غواتيمالا لتشكيل وتدريب مليشيات عسكرية كوبية قادرة على إسقاط نظام كاسترو بالقوة العسكرية، فكانت عملية غزو خليج الخنازير، وعملية نورثوودز، الفاشلتين.
ويكشف أن كوبا دخلت معترك الحرب الباردة منذ يومها الأول بعلاقاتها مع الاتحاد السوفيتي، وعزز من ذلك وجود الحزب الشيوعي الكوبي، فضلاً عما قدمته الاستخبارات السوفيتية من دعم لحركة 26 يوليو والثورة الكوبية، ولعل ذلك كان جزءًا من سياسة الاتحاد السوفيتي لتطويق الولايات المتحدة، من خلال تصدير المد الشيوعي لدول أمريكا اللاتينية، وباعتبار كوبا مفتاح الكاريبي، حظيت باهتمام بالغ من القيادة السوفيتية، التي قررت خلخلة النفوذ الأميركي في واحدة من أهم مراكز التجارة الأميركية في المنطقة منذ نهايات القرن التاسع عشر، والذي عزز من دخول كوبا في ميزان الحرب الباردة بشكل رئيس هو نجاح ثورة 1959، الذي أنهى ستة عقود من الهيمنة الأميركية الاقتصادية والسياسية، فشهدت أراضيها حلقة من حلقات أحداث الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والاشتراكي، وحقيقة فإن مرتكزات السياسة الخارجية الكوبية وتوجهاتها جعلتها أحد أهم اللاعبين في السياسة الدولية الداعمة للمعسكر الاشتراكي.
يؤكد سيد أن كوبا بدأت علاقاتها بأنغولا بدعمها في محاربة الاحتلال البرتغالي، وذلك تنفيذًا لسياستها الخارجية بمساعدة حركات التحرر في أفريقيا. حيث بدأت ببناء قواعدها اللوجستية بداية من الجزائر، مرورا بالكونغو برازافيل، انتهاءًا بأنغولا والتي أصبحت درة تاج التحركات الكوبية في أفريقيا ومناطقها المحيطة. ساهمت هذه القواعد في منح أنغولا استقلالها عن طريق دعم حركات التحرر، والتي أدت إلى الضغط على الحكومة البرتغالية ؛ والتي بموجبها قامت بتغييرات داخلية تمثلت بانقلاب لشبونة، وخارجية بمنح المستعمرات البرتغالية استقلالها. وبسبب اتفاقية ألفور بين الحركات السياسية الأنغولية والحكومة البرتغالية والذي شجعت على نشوب الحرب الأهلية الأنغولية، والتي بموجبها تدخلت كوبا بالمشاركة العسكرية لحماية الحركة الشعبية لتحرير أنغولا. كان هذا التدخل بناء على اتفاقيات الدفاع المشترك طبقًا لوحدة الأهداف السياسية والأيديولوجية، والذي بدوره ساعد في تدخل القوى الإقليمية والدولية. وتنوع التدخل الإقليمي والدولي ما بين مستفيدًا من الوجود الكوبي متمثلًا بالكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي وبعض الدول الإفريقية، ومنها راغبًا في القضاء على التواجد الكوبي ـ السوفيتي والهيمنة على منطقة جنوب غرب أفريقيا متمثلًا بالولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين من دول الاستعمار القديم، ونظام الفصل العنصري في جمهورية جنوب أفريقيا والدول الأفريقية المستفيدة من الدعم الغربي.
ويلفت إلى أن سياسة الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة المد الكوبي ـ السوفيتي اعتمدت على توصيات دول الاستعمار القديم في أوروبا، لما لها من خبرة واسعة في إدارة الدول الإفريقية ومعرفتها بأدق التفاصيل في التكوين السياسي والمجتمعي لأفريقيا، لذلك تحول الاهتمام الأميركي نحو جنوب غرب القارة الأفريقية لمواجهة المد الشيوعي، وذلك بعد فشلها في فيتنام والذي أثر على مستوى الأداء المباشر للولايات المتحدة الأميركية في التعامل مع الملف الشيوعي في أفريقيا. كما ساهمت الضغوطات الشعبية من خلال الكونجرس الأميركي لتجنيب الولايات المتحدة من الوقوع في فخ الهزائم مثل ما حدث في فيتنام عام 1975م في تغيير تحول الاهتمام الأميركي الخارجي. ولذلك تم تسخير الدول الأوروبية والأفريقية المناهضة للوجود الكوبي بمساعدة دول شرق أوسطية ؛ للقيام بمواجهة الوجود الكوبي بالأساليب السياسية والعسكرية بإشراف مباشر من الولايات المتحدة الأميركية.
ويرى سيد القوى الدولية والإقليمية لم تنجح في وقف نزيف الحرب الأهلية الأنغولية عام 1988-1989م فحسب، ولكنها نجحت في إيقاف الحرب الشاملة (حرب الحدود الجنوب أفريقية) في منطقة جنوب غرب أفريقيا بين كوبا وأنغولا من جهة وجنوب أفريقيا من جهة أخرى. تم إيقاف الحرب من خلال انسحاب الأطراف المتصارعة من دولة ناميبيا ومنحها الاستقلال بناء على الاتفاقية الموقعة في الأمم المتحدة. وبذلك تم إيقاف أشرس صراع أفريقي بين جيوش نظامية في القرن العشرين منذ الحرب العالمية الثانية، والذي استمر قرابة الخمس وعشرين عامًا.
ويوضح أن كوبا منذ وجودها بشكل كبير في أفريقيا وأنغولا بشكل خاص ساهمت في بناء المجتمعات المدنية على النمط والنموذج الكوبي الحديث، وكان هذا البناء من خلال قدرتها على الاندماج بالمجتمعات الأفريقية من خلال روابطها العرقية والثقافية، مما ساعد على بقاءها وتميزها عن غيرها من الحملات الدولية الموجودة على الأراضي الأفريقية من دول الكتلة الشرقية. واستمرت كوبا في بناء الدولة الأنغولية كدولة حديثة قادرة على النهوض والاستمرار ما بعد الاستقلال، وفي خضم الحرب الأهلية والتي استمرت حتى بعد رحيل الحملة العسكرية الكوبية. واستمرت كوبا في المشاركة المدنية اجتماعيًا في النهوض بأنغولا من الناحية الفنية والصحية والتعليمية والذي ساعد ذلك روابط الدم التي حدثت بين الشعبين الكوبي والأنغولي.
ويضيف أن القارة الأفريقية تحتل مكانةً مهمةً على المستوى الدولي، من حيث المساحة والثروات وموقعها من قارات العالم وطرق تجارتها. ولذلك لابد من الاهتمام الدائم والمستمر على الخوض في غمار البحث عن تاريخ هذه المنطقة الغنية بالمواقف والأحداث، كونها تمتلك تنوع ثقافي واجتماعي كبير أهلتها لتكون صاحبة امبراطوريات ودول متعددة على مر القرون السابقة ومطمعًا لكثير من المستعمرين، الذين بدورهم استفادوا بكل السبل من خيرات هذه الأرض من مواد خام وأيدي عاملة ساعدت في نهوض دول أوروبا والعالم الجديد منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي. وكان استغلالهم لثروات أفريقيا سببًا رئيسيًا في بناء إمبراطورياتهم الاستعمارية وانتشارها في الشرق والغرب بعد نجاح حملات الكشوف الجغرافية.
ويشدد سيد أن القارة الأفريقية أهمية كبيرة من ناحية الجغرافية السياسية، حيث تعتبر إحدى أهم القارات بالنسبة للعالم العربي والإسلامي من حيث الروابط الثقافية والاجتماعية، ولذلك وجب الاهتمام بدراسة هذا الإقليم من جميع النواحي السياسية والاقتصادية لما له من تأثير مباشر على المنطقة، حيث أن أي تغيير في هذا الإقليم ينعكس مباشرةً على سائر المنطقة سواءًا بالإيجاب أو السلب ؛ وذلك بسبب ما تمتلكه من مؤهلات تمكنها من التأثير على المستوى الدولي. فعلى سبيل المثال الأمن الغذائي في القرن الأفريقي وتأثيره على منطقة الجزيرة العربية، والمد الشيوعي في أفريقيا وتأثيره على منطقة الشرق الأوسط.
من خلال هذه الموضوعات يتم استنباط مدى تأثير الأحداث في القارة الأفريقية وربطها بالمحيط الإقليمي، والذي نتج عن مدى قوة وتأثير شبكة العلاقات الدولية في المحيط الإقليمي والدولي بين أفريقيا والشرق الأوسط على سبيل المثال.