كورونا ومواجهة الذات

هل ثمة وقت أصعب وأنسب من وقت كورونا لكشف معادن أنفسنا الخفية المموهة، من قبل معادن الآخرين؟!
متى كان الخوف عيبا ومذمة، وهل نحاسب الخائفين بخوفهم؟
إلى الأبد سيظل هناك مؤيدون ومعارضون للموقف الواحد

يقولون إن المواقف الصعبة والأوقات العصيبة هي التي تبين معادن النفوس. فهل ثمة وقت أصعب وأنسب من وقت كورونا؟!
تقتصر تلك المقولة أو الحكمة لتخص الأوقات العصيبة وحسب، لأنها هي التي تجبر الإنسان أن يتصرف على طبيعته الأصلية الفعلية ولا تترك له أي فرصة للتجمُّل أو التصنع كما تضطره إلى تحديد موقفه بوضوح ولا تسمح له بالمماطلة أو الإختباء كثيرا في منطقة البَين بَين.
وبعيدا عن الديباجات والمقدمات التمهيدية، نطرق صلب الموضوع: فهل ثمة وقت أصعب وأنسب من وقت كورونا لكشف معادن أنفسنا الخفية المموهة، من قبل معادن الآخرين؟!
الخوف.. الضعف.. الأنانية.. الجبن..
مَن منا يسهل عليه الاعتراف أمام نفسه من دون الآخرين، أو مصارحة ذاته بضعفه أو أنانيته أو.. بجُبنه!
الخوف
فجّر وباء الكورونا بدواخلنا وظواهرنا على السواء، الخوف، فيما عدا فئة المستهترين منا طبعا ولسنا بصدد التطرق إليهم الآن. فهل كل الخوف عيب ومذمة، وهل نحاسب الخائفين بخوفهم؟
الخوف بدافع الحرص على الروح وحمايتها ليس يعيب صاحبه وهذا أمر بديهي ومعروف بل هو ما يفرق بين الإنسان العاقل والمختل عقليا. فلا نلوم غيرنا لخوفهم من سمكة قرش أو تمساح أو أفعى كما لا نعيب عليهم إذا ما ركضوا ملء خطاهم تحاشيا لهجمة أسد حر أو هربا من أي مفترس آخر أو أي خطر حيواني كان أم غيره. كما لا يحق لنا أن نجلد ذواتنا أو نخجل منها إن فعلنا الشيء ذاته أو تصرفنا من نفس المنطلق.
ولكن إلى أي مدى ترانا نبرر ذلك الخوف ونتفهمه! وماذا إذا كان الخوف بدافع الحرص العقلاني والفطري هذا، متعارضا مع أيا مما نضعه بأنفسنا ونقره بيننا كمجتمع من أعراف أو مباديء أو أصول! أترانا حينها سنظل ندافع عن خوفنا وحرصنا كغريزة أمنية طبيعية أم سنرمي الآخرين بالنقائص ونتهمهم بالأنانية والوضاعة والجبن والخوف! 
وترى هل يقتصر اتّصاف البعض بالإيثار والشجاعة والتضحية، على تفضيلهم وإكرامهم وحدهم وحسب، أم أن مثاليتهم الاستثنائية الفردية هذه سوف تطال غيرهم بالذم واللوم والمعايرة والتقريع من قِبل الناس، بذنب افتقارهم اللا إرادي إلى تلك الفضائل!
خير مثال حي أو شاهد لتلك الأطروحة الفكرية الجدلية، هو تلك الواقعة التي حدثت بالفعل بإحدى القرى المصرية بوقتٍ كورونيّ غير بعيد. هي قرية كان أجمع أهلها أو ربما بعضهم على التجمهر اعتراضا على دفن جثمان طبيبة موبوءة بكورونا، بمقابرهم خوفا من العدوى.
ولك أن تتخيل كيف جلبت تلك الواقعة لأصحابها، كل مظاهر الانتقاد المجتمعي إذ أن التجمهر الجماعي الاعتراضي الذي قاموا به قد قوبل بحشد أكبر من الانتقادات الجماعية الموجهة لهم. فقد قابلهم الرأي العام بشراسة هجومية انتقادية حد وصمهم بالعار. فضلا عن مطالبة البعض للجهات المسؤلة بتغيير اسم القرية إلى اسم تلك الطبيبة إمعانا في إذلال أهلها النفسي الضمني بأن يظل اسمها أو بالأحرى ذكراها، ملازما ملاصقا لتاريخهم وهويتهم.. أو ربما فقط ليظل يذكرهم بها. 

فقد انهالت على رؤوسهم لعنات الشعب الفايسبوكي وجمهور السوشيال ميديا. اتفقت الآراء كلها وأجمعت جميع وجهات النظر على إدانة التصرف وذويه. حقَّروا تصرفهم وتكلموا عن خلوه من المروءة والإنسانية. والجدير بالملاحظة أن أحدا لم يتبنّ الرأي الآخر أو يتقصى وجهة النظر المخالفة ولو من باب التحليل والحيادية والموضوعية!
ولست الآن بصدد تبني الرأي الآخر كما لست أنصّب نفسي دفاعا عن أهل القرية وفعلهم وإنما هذي هي لحظة مواجهة تحليلية ليست إلا.
تُرى ما الدافع وراء تصرف أهالي القرية بتلك الطريقة التي أثارت الضجة وجلبت عليهم اشمئزاز الرأي العام، سوى الخوف!
هم رفضوا دفن جثمانها بمقابرهم خوفا على أنفسهم ودرءا للعدوى، إذ لم يكونوا يعلمون أن جسدها قد فقد قدرته على نقل العدوى لانحسار الفيروس بداخله حيث إن ما من رذاذ بعد محمل به سوف يخرج منه. وبناء عليه تصرفوا بواقع خوفهم الغريزي وحرصهم على أرواحهم وحيواتهم. نتصور أنهم بتلك اللحظة كانوا يتحاشون خطرا يداهمهم بما أوتوا من غريزة بغض النظر عن كونه وحشا غابيا مفترسا أو جسدا ميتا حاملا للعدوى كقنبلة موقوتة بوجهة نظرهم، وبغض النظر عن المُثل العليا والتقاليد المجتمعية أو الأعراف الإنسانية المتفق عليها والتي ربما كانوا ينادون بها هم أنفسهم بأوقات أسهل وأأمن! 
إذن.. إنه الخوف.
ما الذي جعله ها هنا محل استنكار وذم وجعل الجميع يرونه فعلا مشينا مخزيا بدلا من اعتباره مجرد غريزة بشرية دفاعية مقبولة عن النفس كما في أي موقف دفاعي آخر؟
وهل يجوز اعتبار أن جمهور المنتقدين هؤلاء كلهم يمثلون الجانب المثالي الفضيل الطيب في الحكاية، أم يجوز أن فيهم من كان سيتبنى نفس موقف الأهالي بالضبط.. فقط لو كان عايش الموقف نفسه بما فيه من شعور الأزمة والخوف والخطر!
أعرف أن هذا الطرح سيجد معارضينه ربما بأكثر مما سيجد مؤيدينه لكنه على أي حال مجرد محاولة موضوعية حيادية لتحليل سلوك جدلي أزلي إن صح التعبير وذلك لكونه خاضعا لمقاييس متغيرة وربما متناقضة تختلف باختلاف الأنماط السلوكية والفكرية البشرية المتنوعة.  
فإلى الأبد سيظل هناك مؤيدون ومعارضون للموقف الواحد. وسيظل البشر يختلفون فيما بينهم في حكمهم على الشيء الواحد مهما بدا بديهيا أو لو حتى كان سماويا مُنزلا. فلكلٍّ نقاط ضعفه، ولكلٍّ رؤيته وفكره وتكوينه النفسي الخاص الذي يشكله ويفرض اختلافه عن الباقين. المهم أن نحاول أن نتفهم ونلتمس الأعذار لغيرنا وألّا نصدر أحكاما تعسفية سريعة من دون أن نتحرى دوافع الآخرين وأسبابهم.