كورونا يعرّي أذهان الساسة

الدكتور شريف مليكة من "جون هوبكنز" بالولايات المتحدة الأميركية: لا أتوقع نجاح الصين في الوصول إلى حكم العالم بعد انزياح الجائحة.
الساسة، رغم القوة والجبروت، لم يكونوا مستعدين أبدًا لمواجهة مثل هذا الوباء بالغ الضآلة!
معظم أيامي باتت مرتبطة بمتابعة شريط الأنباء الأسود الملقي في وجهي بأرقام الموتى والمصابين
أتمنى أن يستثمر البشر في صحة الإنسان أكثر مما يستثمرون في تدميره

الفكرة الرئيسية التي تشغل الروائي المصري المهاجر الدكتور شريف ماهر مليكة، خبير علاج الألم بجامعة جون هوبكنز بولاية مريلاند بالولايات المتحدة الأميركية، مع قدوم كل صباح جديد هي معرفة ما إذا كنا قد وصلنا بعد إلى ذروة الهجمة الفيروسية الغاشمة، أم لا؟
فمن المعروف عن الأوبئة، بصفة عامة، أنها تنتشر باضطراد إلى أن تصل إلى حد معين، ثم تصل معدلات الإصابة بها إلى الاستقرار - أو التباطؤ في الزيادة - نتيجة ارتفاع معدلات المناعة بين البشر عمومًا.
وبضبف الدكتور مليكة بأن هذا يحدث بعد أحد أمرين: أن يصدر جسم الانسان أجسامًا مضادة للفيروس تقضي عليه بمجرد وصوله إليه، أو بعد اكتشاف مصل وقائي أو علاج يقضي عليه بنفس الطريقة.
والأمر التالي الذي يفكر فيه الدكتور مليكة - وربما يكون مبالغًا في توقعاته كما يشير - هو متى تنضج الدول حول العالم فيدرك البشر أننا سواسية في هذا العالم، والمصائب التي تحيق بجماعة من البشر في أي مكان، إنما تؤثر ولو بطريق غير مباشر على بقيتنا.
كما تؤرقه فكرة من ينجو ومن يهلك؟ ويتساءل: هل هي مسألة قدرية، عبثية؟ أم أن الوباء يختار ضحاياه بعناية؟! 
ويطرح علينا سؤالًا آخر هو: ما هي علاقة السماء بما يحدث؟ وهل يعاقبنا الإله كما يدعي البعض؟ أم يؤدبنا فنرجع إليه، كما يدعي البعض الآخر؟ أم أن إله السموات خلقنا ثم رفع يديه عن أمرنا كما يعتقد طرف ثالث؟ 
ثم، والسؤال لا يزال على لسانه:  ما هي الحكمة الإلهية أو القدرية وراء ما يحدث برمته؟ 
وعن كيفية تأمله لوضع البشرية في ظل جائحة كورونا التي تجتاح العالم من مشرقه إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه يقول: أود التنبيه أولًا إلى أننا لا نزال - كما أعتقد - في أولى مراحل الوباء. لذلك فمن الصعب جدًا النظر في التحولات الآنية ثم استقراء الصورة العامة للبشرية، من خلال تلك التحولات.
وثانيًا، لم أشهد شخصيًا، مثل الغالبية من الأحياء عبر هذا الكوكب، مشهدًا كهذا؛ فالوباء الأخير الواسع الانتشار حول العالم، مثل هذا الذي نمر به، لم يحدث منذ وباء "الإنفلونزا الإسبانية" في عام 1918 الذي اجتاح العالم قديمًا، وأصاب 500 مليون حول العالم، أي ثلث البشر آنذاك، وقتل وقتها 50 مليونًا حول العالم. 

لذلك يقول الدكتور مليكة إنه يعتقد أننا لا نزال في بداية الوباء. ولهذا السبب يجد البشرية وقد تسمرت في مكانها، وكأن المفاجأة المدوية قد شلت حركتها تمامًا.
 وثالثا، يجد ردود أفعال الدول والشعوب تتفاوت ما بين تهويل أو تهوين بجسامة أمر هذا الوباء. ويتعجب من هؤلاء الذين تحولوا - ربما من هول المفاجأة - إلى الانصراف عن خطورة أمر الفيروس القاتل، وتحولوا إلى لعبة السياسة القذرة، يهاجمون خصومهم السياسيين تارة، أو يتشفون في ازدياد أعداد الضحايا لدى دول لا يتفقون معها.
 والحال ليس أفضل عند بعض المتدينين الذين انصرفوا يعلنون أن غضب الله قد انطلق يدمر الكافرين والمنصرفين عنه - من وجهة نظرهم الضيقة - التي لا تفقه أن الله هو خالق البشر أجمعين.
 ويرى الدكتور مليكة أن الإنسان دأب في كل وقت وزمان على الإتيان بفن، يصف الأهوال التي تحيق به. فمن مسرحية "أوديب ملكا" التي كتبها "سوفوكليس" بين عامي: 430 و426 قبل الميلاد، تحوي اثنين من أعظم الأهوال: قتل الأب، وسفاح القربى، الذي أثار غضب الآلهة التي أرسلت "الطاعون" إلى مدينة "طيبة"، إلى قصص "ديكاميرون" لـ جيوفاني بوكاتشيو 1353 الكاتب الإيطالي الذي كتب سلسلة قصص تبلغ مائة قصة، عبر حلقات متسلسلة تدور حول الإغواء ونساء شهيرات بعد "طاعون 1348".
 وفي العصر الحديث نجد "الطاعون القرمزي" لجاك لندن 1912، وهي قصة مستقبلية لما بعد نهاية العالم، عندما يتبقى رجل واحد فقط بصحبة مُهر وكلبين، بعد طاعون قضى على جميع من حوله، إضافة إلى عدد قليل من البشر يحاولون إنشاء مجتمعهم الخاص، دون ماضٍ ولا ذكريات. 
ويصل الدكتور مليكة إلى رواية "الطاعون" لألبير كامو 1947، وهي سجل للحياة اليومية في "وهران"، المدينة الجزائرية، بينما يتفشى وباء الطاعون فيها. وهي تذكرنا بـ"حرافيش" نجيب محفوظ التي كتبها عام 1977 والتي يقول فيها في الفصل 31 من حكاية عاشور الناجي: "تفاقم الأمر واستفحل. دبت في ممر القرافة حياة جديدة.. يسير فيه النعش وراء النعش. يكتظ بالمشيعين. وأحيانًا تتابع النعوش كالطابور. في كل بيت نواح. بين ساعة وأخرى يعلن عن ميت جديد. لا يفرق هذا الموت الكاسح بين غني وفقير، قوي وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل، إنه يطارد الخلق بهراوة الفناء.
 وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار. ولهجت أصوات معوجة بالأوراد والأدعية ولاستغاثة بأولياء الله الصالحين."
ثم لا يمكن أن تفوتنا رواية "البلاء" لستيفن كينج 1978 إذ يتخيل كينج انتشار مرض الطاعون نتيجة تسربه من مختبر للجيش الأميركي، بنسبة إصابة تقارب 100%، يتبقى عدد قليل من الأفراد على قيد الحياة، يسعون للانضمام إلى الأم "أبيغيل"، وهي امرأة سوداء تبلغ من العمر 108 سنوات، ويعتمدون عليها في خلاصهم.  

shreef
د. شريف مليكة

وأخيرًا "الحب في زمن الكوليرا" لجابرييل جارثيا ماركيز 1985 إذ تقع أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر، في بلدة كاريبية صغيرة، حيث يقع عامل تلغراف شاب في غرام تلميذة جميلة، ويقسمان على الزواج والحب الأبدي، لكن كما في العادة، تزوجت "فيرمينا" من طبيب شاب يعمل على مكافحة وباء الكوليرا، فيتحول "فلورنتينو" إلى عاشق أزلي، مكافحًا لأن يصنع لنفسه اسمًا وثروة، متمسكًا بحبه في الخفاء، ينمو عشق "فلورنتينو" بداخله باهتزازات تشبه اهتزازات المرض، فيغزو الحب جسده كالجرثومة، يفشل في استخراجها من جسمه، فتصير الكوليرا رمزاً لمشاعر الحب التي تجتاح روحًا مضطربة لشاب عاشق.
وعلى الرغم من أنه أحد كبار الأطباء على مستوى العالم، فإن هذه الجائحة أثَّرت كثيرًا في حياته، وعن هذا الجانب يقول الدكتور شريف مليكة: أنا شخصيًا كطبيب يحيا في الولايات المتحدة، أثر هذا الوباء بطريقة مباشرة على حياتنا هنا. فمن ناحية، مكثنا بين جدران بيوتنا لا نبرحها إلا للضرورة القصوى، ومع الأخذ في الاعتبار الإجراءات الوقاية المقيتة من ارتداء الـ"ماسك" الخانق، إلى ارتداء القفاز أو أحيانًا جوزين؛ واحدًا فوق الآخر، ثم غسل الأيدي ثلاثين مرة في اليوم الواحد حتى تقشف جلدي.
 لكن التأثير الأهم كان في منعي من ممارسة رسالتي الأثيرة بالنسبة لي والمتمثلة في إجراء عمليات للحد من شدة آلام المرضى لدي، إذ اعتُبرت تلك العمليات غير مستحبة في هذه الظروف التي تتطلب الإبقاء على غرف العمليات والمستشفيات متاحة فقط لإنقاذ مرضى الفيروس اللعين.
 لكنني تغلبت على بعض الإحباط بالقراءة ومشاهدة الأفلام وسماع الموسيقى، ثم الكتابة إذا أتاحت القريحة مجالا في ظل تلك الحالة النفسية السيئة.
وأصبحت معظم أيامي مرتبطة بمتابعة شريط الأنباء الأسود الملقي في وجهي بأرقام الموتى والمصابين والمتعافين في كل مكان.
 إضافة إلى هبوط وارتفاع أسهم البورصة التي تحمل في طياتها مستقبل أيامي حين أبلغ سن التقاعد، في حال انتصرنا على الفيروس بالطبع!
وعندما أسأله عن الإيجابيات التي يمكن أن تعود على الإنسان من هذه التجربة المريرة، يصمت الدكتور مليكة معترضًا على السؤال، ثم يقول: لا أعتقد أنه يمكن أن يوجد مردود إيجابي لموت إنسان واحد، فما بالك بالآلاف الذين يتساقطون كل يوم.
 لكنني أتطلع كما ذكرت سابقًا إلى أن يتفهم الإنسان أنه لا يتميز قوم عن قوم، ولا بشر فوق بشر، وإننا جميعًا نقف ضعفاء في مواجهة ذلك الفيروس الخفي. 
ومع ذلك فأنا أتطلع لأن يستفيق العالم بعد انزياح الكرب فيقفون أكثر اقترابًا الواحد حيال الآخر، بعد أن أجبرهم الفيروس على التباعد. وأن يتحلى الجميع بالنظافة لأنها المنقذ من العديد من الآفات التي تحيق بنا. وأن يستثمر البشر في صحة الإنسان أكثر من الاستثمار في تدميره.
 أتمنى أن يدرك أصحاب الديانات حول العالم أن الكنائس والمساجد والمعابد بأنواعها صارت خاوية بأمر من الفيروس، وأصبحنا لأول مرة متحدي الصف نتضرع إلى إلهنا من أعماق قلوبنا من دون الإعلان عن انتماءاتنا العقيدية.
 كما أتمنى - وإن كنت لا أعتقد في إمكانية حدوث ذلك - أن يتنازل البشر أينما كانوا عن تلك النظرة الفوقية التي يتعاملون بها مع أقرانهم لسبب العرق أو الجنس أو الدين.
وعلى الجانب الطريف، فلم أقرأ مثل هذا العدد من النكات المتداولة بين البشر في كل مكان في العالم، ولكن على نحو مركز - بالنسبة لي - تلك القادمة من مصر. فالمصريون يتمتعون بتلك القدرة على الضحك من الحاضر الأليم، بل والسخرية من المستقبل الغامض على ضوء ذلك الحاضر. لقد فعلوها من قبل - في حياتي - عند هزيمة عام 1967، وفي أعقاب ثورة يناير 2011، ثم بعد اعتلاء الإخوان المسلمين كرسي الحكم، واليوم في مواجهة الوباء القاتل.
 لذلك فقد أسهمت هذه الطُرف الآتية من مصر في محو ولو جزء بسيط من شعوري بالألم والإحباط، مثل: "على فكرة اللي يلبس الكمامة ويقلعها يبقى ما كانش لابسها عن اقتناع!"
 يا لها من عبقرية في السخرية من الواقع الاجتماعي والسياسي معًا.
وعن تقديره لأهمية الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في إنقاذ للبشرية من تبعات هذه العزلة التي فُرِضَتْ على البشر، يجيب قائلا: رغم أن السؤال يحمل في طياته نظرة مستقبلية لم تتحقق بعد، إلا أني أثق في أن العلم وأهله هم من سينقذون البشرية من تبعات هذا الوباء الفتاك.
 لقد عرى الوباء حقيقة كانت قد غابت عن أذهان الساسة، وهي أنهم رغم القوة والجبروت، لم يكونوا مستعدين أبدًا لمواجهة مثل هذا الوباء بالغ الضآلة!
 فالطب -على سبيل المثال - بات مهتمًا باكتشاف علاجات الأمراض المعروفة، الشائع منها والنادر. ولكن القائمين على تنفيذ السياسات الطبية حول العالم فشلوا في إيجاد حلول جذرية لمجابهة وباء يجتاح العالم بهذه الصورة البشعة!
 لذلك فقد استعانوا بالعلم مجددًا، ليس فقط من أجل إنقاذهم من الوباء المستشري، بل لإيجاد مصل يقينا الإصابة به في المستقبل، إذا ما استيقظ خطره مجددًا.

كما أن الساسة - على الأقل هنا في الولايات المتحدة الأميركية - يعلنون كل يوم عن استحداث خطط للحيلولة دون حدوث أمر جلل كهذا في المستقبل، بإيجاد خطة محكمة للتعامل مع الأمراض والأوبئة المماثلة، كما هو الحال في مواجهة الكوارث الطبيعية التي تشهدها أميركا كل عام تقريبًا.
وكعادته دائمًا يميل صديقي الروائي والطبيب الشهير شريف مليكة نحو التفاؤل في إجابته عن سؤالي حول مستقبل العالم بعد انزياح هذه الجائحة المباغتة للكون كله، وذلك بسبب ما يشهده أمامه من تغير نوعي في العلاقات ما بين البشر في الدولة الواحدة، وما بين الدول بعضها وبعض.
 فلقد كف البشر عن صلفهم وغرورهم الطبقي على سبيل المثال، ووجدنا الكل يهرع إلى إغاثة الضحايا بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو العقائدية؛ فأميركا، مثلًا، مدت يد العون لإيران، والصين الشيوعية، ولإيطاليا الكاثوليكية، وغنى إلتون جون البريطاني المثلي الجنس عبر قنوات "فوكس" الأميركية بالغة المحافظة، وتبرع الأثرياء بمئات الملايين من الدولارات من أجل شراء الدواء والغذاء للفقراء حول العالم، وتحول العلماء على سطح الكرة الأرضية إلى جبهة واحدة يتبادلون معًا نتائج البحوث والاكتشافات لا لشيء سوى انتصار البشر ككل على هذا الوباء الفتاك.
 فهل تنتقل تلك الطفرة النوعية التي نشهدها لأول مرة في حياتنا، إلى ما بعد اندثار الوباء؟ بالتأكيد نحن نأمل أن تصير تلك المواقف والسلوكيات الإيجابية واقعًا نحياه في كل يوم من أيام حياتنا، بل وفي حياة أبنائنا وأحفادنا على هذه الأرض.
ويضيف مليكة بأن الشق الثاني من سؤالي عمن سيحكم العالم بعد انزياح الجائحة، يدفعه نحو الحذر من مثل ذلك التفاؤل. فمازال الصراع الوجودي القائم بين البشر، يدفع بهم نحو التنافس حول من ينتصر على من؟ ومن سيحظى في النهاية بالكعكة؟ فيبقى الخطر الأزلي الذي يحول بين المستقبل الوردي الذي نرجوه، والواقع العملي الذي - لا محال - سيحيق بنا.
ولكن إذا أردنا التخمين عمن سيفوز بالكعكة في نهاية الأمر، فأنا أعتقد في أمرين؛ أولهما أن صاحب العلم والمال وقوة السلاح سينتصر، والأمر الثاني أن الوصول إلى القمة يحتاج إلى خطة ذات عدة شروط لتحقيقها؛ فعلى سبيل المثال لا يخفى على أحد سعي الصين الدؤوب نحو تبوء صدارة اقتصاد العالم. لكنني لا أتوقع نجاح الصين في الوصول إلى حكم العالم لسببين؛ فالصينيون لم يهتموا بالعلم والاختراع بالقدر الكافي، وإنما لجأوا إلى تطبيق علوم الآخرين، وتنفيذ نتائجها بكميات كبيرة، رخيصة الثمن، أدت إلى استحواذهم على السوق العالمية، فازدادت ثرواتهم، وانتعش اقتصادهم بصورة ملفتة.
ولكن ذلك لم يواكبه علم راسخ الأركان يضيف للإنسانية، ولا يكتفي بالانتفاع منها. وذلك بعكس ما شهده التاريخ من أمر الأمم التي حكمت العالم، بدءًا من المصريين القدماء، عبر الإغريق ثم الرومان، فالعرب والعثمانيين، وصولًا إلى الفرنسيين، ثم الإنجليز. وأخيرًا الأميركيين.