كيف نخرت مجرد شكوك في الزوجة أساسات حياة 'عمدة أمستردام'؟
تتمحور رواية الكاتب الهولندي هيرمان كوخ "عمدة أمستردام" كيف تهدد الغيرة والشك العلاقة الزوجية لرجل سلطة مشهور يتمتع بوجه هادئ وابتسامة دبلوماسية ساحرة، وكيف يتحول إلى شخصية مضطربة ترى أشياء قد لا تكون موجودة على الإطلاق، وذلك لكونه سمح لابتسامة بريئة من زوجته لرجل آخر بأن تدمر حياته وتملؤها بشك قتل كل شيء.
يبحر هيرمان كوخ بصيغة المتكلم ونثر واضح ولمسة من الفكاهة السوداء داخل عقل شخصيته الرئيسية، لنرى العالم من خلالها. وعلى لسانها نقرأ ونتحدث مع الشخصيات الأخرى حتى نقتنع في مرحلة ما بأننا والشخصية قد أصبحنا واحدًا، فنشاركها شعورها وهواجسها وشكوكها، ونشهد في الوقت نفسه كيف يمكن لرجل أن يهدم حياته. يتم أيضًا التطرق إلى موضوعات رئيسية أخرى مثل الانتحار والحب والسلطة والاختلافات الثقافية دون أن تصبح تفسيرية.
تبدأ أحداث الرواية في الرواية التي ترجمها عن الهولندية محمد عثمان خليفة وصدرت عن دار العربي، عندما يرى روبرت والتر "عمدة أمستردام "، زوجته سيلفيا ترمي رأسها إلى الخلف بينما تضحك بشدة في حفل استقبال رأس السنة الجديدة على نكتة ألقاها أثناء عضو أعضاء مجلس البلدية مارتن فان هوغستراتن الذي يمسك مرفقها بيده ويهمس بشيء في أذنها. وهنا يتغير كل شيء، يشك روبرت على الفور في الأسوأ أن سيلفيا، التي كان يعيش معها بسعادة منذ سنوات، تخونه.
هو غير متأكد من علاقتها الغرامية ولا يجرؤ على مواجهة زوجته بشكوكه. في الليل، يرقد روبرت مستيقظًا ويفكر في سلوكها في ذهنه. خلال النهار يكون في حالة تأهب. يراقب زوجته عن كثب. يصف هيرمان كوخ بشكل جميل كيف تتجذر الأفكار المهووسة ببطء في رأس العمدة. تصرف زوجته بشكل طبيعي أمر مثير للريبة. فهل تخونه حقًا؟ هل ابتسامتها لمارتن نابعة من حب له أم سخرية منه؟ تُرى من يتصل بها الآن؟ أهي صديقتها أم عشيقها؟ فشكه في زوجته كان بمثابة بداية النهاية.
لكن حياة روبرت لا تتمحور حول زوجته فقط، ففيها ابنته المراهقة التي يحاول فهمها.. ووالداه اللذان قررا أن ينهيا حياتهما لأنه لا داعي لإكمالها بعد أن بلغا من العمر أرذله. يتصلان به يوم انتحارهما ليودعاه لكنه لا يجيب، هل فات الأوان؟ هل انتحرا حقًا؟ لا يستطيع التصديق. وبعد وقت ليس ببعيد، يفاجأ بقصة من الماضي تقلب عالمه رأسًا على عقب، حيث تعرض إحدى الصحفيات صورة لضابط شرطة يتعرض للاعتداء من قبل ثلاثة متظاهرين خلال مظاهرة في ضد حرب فيتنام، وادعت أن عمدة المدينة هو أحد هؤلاء المتظاهرين.
بالإضافة إلى ذلك، هناك قصص أخرى مثيرة للاهتمام، مثل خلفية زوجته. التقى بها ذات مرة في إحدى الدول الجنوبية وعرف أنها كذلك. ومع ذلك، تراوده الشكوك في بعض الأحيان. كان في إجازة مع صديق طفولته، الذي أصبح الآن عالمًا عظيمًا في الولايات المتحدة. يريان بعضهم البعض عدة مرات في السنة. وكان صديق الطفولة دائمًا هو زير نساء كبير. فهل كانت زوجته تفضل مقابلته أولاً؟.
يذكر أن هيرمان كوخ ولد في الخامس من سبتمبر/ايلول 1953، وهو كاتب هولندي وممثل كوميدي. يكتب القصص والروايات، والأعمدة الصحفية، ويمثل أيضًا في الراديو، والتليفزيون، والسينما. له مجموعة قصص قصيرة بعنوان "المارة"، نشرت عام 1985. أما أول رواياته نشرت عام 1989، وكانت بعنوان "أنقذينا يا ماريا مونتانيللي". وروايته "العشاء" نشرت عام 2009، وهي أول رواية هولندية تصل إلى قائمة الأكثر مبيعًا لجريدة النيويورك تايمز الأمريكية. لتظل بها عدة أسابيع متتالية، كما فازت في العام نفسه بجائزة "NS Audience award" للجماهير، وترجمت إلى أكثر من أربعة وثلاثين لغة. وتحولت إلى فيلم أمريكي من بطولة الممثل الشهير "ريتشارد جير" و"لورا ليني" و"ستيف كوجان". وصدرت ترجمتها العربية عن العربي للنشر والتوزيع عام 2015، وتلتها الطبعة الثانية عام 2016. كما قامت العربي للنشر والتوزيع أيضًا بترجمة روايته "المنزل الصيفي" عام 2017.
مقتطف من الرواية
استلقيت على السرير في تلك الليلة، وكانت زوجتي في الحمام، لأسترجع شريط المشهد عشرات المرات في مخيلتي. من البداية إلى النهاية، ثم من النهاية إلى البداية. وبعدها بالحركة البطيئة، وبعدها لقطة لقطة. حاولت التوقف عند اللقطة التي تحركت فيها عينا زوجتي بيني وبين عضو المجلس.. بل تحاشت فيها النظر إلى عضو المجلس.
"سيلڨيا".. تلك اللحظة التي لامست فيها أصابع "مارتن فان هوجستراتن" ذراع زوجتي وهو يودعها، كانت اللمسة الثانية. في يده الأخرى زجاجة البيرة، زجاجة وليست كأسًا. خطر لي أنه تعمد ذلك حتى يترك الحرية ليديه. ويخطر لي ذلك ثانية الآن، وأنا راقد على السرير مغمض العينين. إنه يتعمد إطلاق العنان ليد واحدة على الأقل.. يلامس بها النساء.. زوجة العمدة.. زوجة العمدة المخلصة.. طافت الفكرة في ذهني ولكنني طردتها ما إن بدت.
"روبرت".. كان "مارتن فان هوجستراتن" ينظر إليّ؛ وهو يرفع زجاجته ليلامس بها زجاجتي.
قال إنه ذاهب.. على الرغم من أنني كنت قد اقتربت منهما للتو. قال إنه ذاهب ليجلب شرابًا لصديق.. عذر أحمق مثله.
في الأمر سر لا أرتاح إليه، ولكنني لا أعرفه بعد.
اجتزنا مدخل مبنى البلدية، ومشينا نحو ميدان "رامبرانت".
- أتعتقد أنهم انتبهوا لغيابك الآن؟
سألتني زوجتي بينما كنا نجتاز جسر "بلاوبروج". سؤال طبيعي تمامًا.. بل طبيعي أكثر من اللازم. كلانا يعرف أنه لن ينتبه لغيابنا أحد.. ولن يفتقدنا أحد. "أين كنت؟"، قد يسألك أحدهم في اليوم التالي للحفلة. "بحثت عنك ولم أجدك". وهنا يكون أذكى تصرف هو أن تغير السؤال نحوه. "وأين كنت أنت؟.. بحثت عنك.. في الشرفة.. في المطبخ.. كنت أتحدث مع صديقة في تلك الغرفة الصغيرة.. حيث يتركون المعاطف. مع.. ما كان اسمها؟؟.. تلك البارزة الأسنان..".
لا أعتقد ذلك. وحدهم من يبالغون في تقدير أهميتهم هم من يعتقدون أن الناس تفتقدهم.
مر قارب سياحي متأخر أسفل الجسر، تحمل طاولاته شموعًا مضيئة؛ ربما يقدمون لعملائهم نوعًا رخيصًا من النبيذ مع مكعبات جبن صغيرة مغطاة بالمستردة. يخيم الصمت على جانبي الجسر، حتى خيل إليّ أنني أسمع نبضات قلبي. يبدو أن أفضل سبيل للهروب من براثن هذا الموقف هو أن أسأل "سيلڨيا" بكل صراحة: "منذ متى وأنتما تلتقيان؟".. كلما كان السؤال صريحًا ومباشرًا، كان من الأسهل لي أن أحكم على رد فعل زوجتي وأعرف ما إذا كنت محقًا أم مخطئًا. كما يمكنني أن أكون أكثر دهاءً. "يبدو أنكما كنتما منسجمين تمامًا.. أنتِ و"مارتن".. ما الذي كنتما تتحدثان فيه؟".. ولكنني كنت أعلم ما أخشاه. أخشى أن تسخر زوجتي مني.. "ما هذا يا "روبرت".. ألم تنضج بعد!".. قد تسخر مني وتضحك حتى يحمر وجهها، وعندئذ لن أعرف إن كانت حمرة خجل وحرج أم لا.
وقد يأتي رد فعلها مختلفًا، أن تشعر بالإهانة على سبيل المثال. "أتمنى ألا تكون جادًا فيما تقول.. صحيح؟ أرجوك أن تخبرني أنك تمزح. أنا و"مارتن فان هوخشتراتن"؟ هل تراني على هذا النحو؟".. وربما تبكي أيضًا. دمعتان وحسب.. تكفيان. لحظتها لن يسعني سوى السكوت. بل قد أعتذر لها من مجرد تفكيري في فكرة سخيفة كهذه. هي و"مارتن فان هوخشتراتن"! فكرة سخيفة وغير معقولة. زوجتي تتحدث مع أحد أعضاء المجلس المحلي في حفل رأس السنة. ومن الواضح أنها كانت مستمتعة بذلك. حتى إنها ضحكت بصوت عالٍ ورأسها مال للخلف من فرط السعادة لشيء قاله ذلك العضو. حسنًا.. أقول لك إن من الصعب عليّ أن أتخيل الطريقة التي أصبح بها "مارتن فان هوخشتراتن" خفيف الدم فجأة، ولكنها مسألة ليست محالة.. من الناحية النظرية طبعًا. ربما تمادى الرجل حتى يسعد زوجتي، فتفوق على نفسه وتخلص من سماجته، ونجح في إضحاك سيدة في مثل ذكائها. لا أجد عيبًا في ذلك.. ولكن.. ما الذي قاله بالضبط؟ انتبهت إلى حقيقة أنني أتوق إلى أن أعرف. ما ذلك الشيء الطريف إلى حد أن يضحك زوجتي بهذه الطريقة؟
اجتزنا ميدان "رامبرانت"، ووصلنا إلى كافيه "شيلر". وبنبرة حرصت على أن تكون بسيطة، ومن دون أن أبطئ الخطى أو أنظر إليها، اقترحت عليها أن ندخله. تعرف بالطبع أنني كنت طوال الوقت شديد الانتباه لردود أفعالها. فلو أنها على علاقة بالعضو "فان هوخشتراتن" فلا بد أنها سترغب بشدة في العودة إلى المنزل بأسرع ما يمكنها.. صحيح؟ كي تكون في السرير تسلي نفسها بكتاب أو برنامج في التليفزيون حتى تغفو.. أو أي شيء آخر تتحاشى به الكلام معي. أي شيء، طالما أنها لن تجبر على سماع أسئلتي التي لن يمكنها أن تجيب عنها من دون حمرة خجل. وبخلاف احتمال أن تسخر مني، أو تبكي أمامي، في حال أن سألتها بكل صراحة عما إذا كان هناك علاقة غرامية تجمع بينها وبين حضرة العضو، كان هناك رد فعل خشيت من أن أراه: خشيت من أن تعترف لي بكل جرأة واستهتار بأنها بالفعل تلتقيه. ربما تقولها بتلك العبارات المبتذلة التي تسمعها في كل المسلسلات ذات مائة حلقة أو في أفلام الدرجة الثانية.. ولكن ليس في واقع الحياة.
"نعم يا "روبرت"، أنا و"مارتن" في علاقة، ومنذ وقت طويل. لم يخبر زوجته بعد، ولكنه سيتركها من أجلي، وسوف أتركك من أجله. لم أتخيل أن أقول لك هذا يومًا ما.. ولكنها الحقيقة. أحب شخصًا غيرك.. أحب "مارتن" وهو يحبني".
كلمات، من بعدها تنتهي حياتي. كل حياتي، وكل ما لديّ. فكرت في ابنتها.. "ديانا". سوف تتخرج في المدرسة الثانوية هذا العام. سمعتني أقول لزوجتي.. "أليس من الأفضل أن ننتظر حتى تنتهي من امتحاناتها؟ ربما تتأثر بأمر كهذا".
أجل.. قد تنتهي حياتي، حياتنا، الحياة التي عشناها حتى الآن، ثلاثتنا. قد تغلق ابنتي غرفتها عليها وتبكي. قد تكون أمها السبب، ولكنها برغم ذلك لن تنظر إليّ بالطريقة نفسها بعد الآن؛ كلانا السبب من وجهة نظرها، وهذا صحيح، أليس كذلك؟ لو أن "سيلڨيا" سعيدة معي، لما أغرمت بغيري، أليس كذلك؟ "ديانا"، بدورها، كانت سعيدة معنا طوال ما مر من عمرها، وحبنا غير المشروط لها منحها ثقتها بنفسها. حبنا بعضنا بعضًا، وحبنا لها. كانت حياتها ثابتة مستقرة، حتى إنها وفي مراهقتها لم تفكر قط في التمرد علينا. حتى إنها لا تزال حتى اليوم تحب أن تجلس بيننا على الأريكة، وتسند رأسها على كتفي، وتمد ساقيها على ساقي أمها. كل هذا سيصبح محض ذكرى إن تركتني زوجتي ورحلت مع عضو المجلس. ربما تقرر "ديانا" أن تبقى معي، ولكنها ستكون بطريقة لا يتمناها أي أب: شفقةً منها تجاه زوج خانته زوجته، "الأب المسكين".