"كيلة قمح": بقعة الضوء السردي والتاريخ المسكوت عنه

قصص تامر حجازي ذكية تحمل التاريخ سراجا يشير بفطنة لظلمة الواقع العروبي المعاصر.
أَنَا وَأَنْت جوعى مِن ظهْر جوعى، فِي ‏ سَلِسَة جِيَاع تَمْتَدّ إِلَى سبعين جَدّ يا وَلِيَّة
القاص استعمل في قصة المجموعة العمدة "كيلة قمح" أسلوبًا في القصة يشبه المناجاة الدرامية

"كيلة قمح" للقاص تامر حجازي مجموعة قصصية ذكية تحمل التاريخ سراجا يشير بفطنة لظلمة الواقع العروبى المعاصر، فلم يسهُ السرد القصير طرفة عين عن الواقع، فى جميع مشتملاته بداية من علامته الأساسية "كيلة قمح"، وحتى السخرية المرة للعربي الذى يحاول تحلية حنظل واقعه بروحه المقاومة حول تأريخ الجوع، تقول القصة على لسان بطلها لزوجته: "فَأَنَا وَأَنْت جوعى مِن ظهْر جوعى، فِي ‏ سَلِسَة جِيَاع تَمْتَدّ إِلَى سبعين جَدّ يا وَلِيَّة‎"‎، مرورا برموز دالة كثر نبعت من تاريخ الشعب المنحول عقله، المنكوب فؤاده بمحنة ابتلاع مقدراته ونهب ثرواته، إنه التاريخ المسكوت عنه. 
قصة تتعاطف مع الجمع الغفير من الوطن العروبي الذى أصبح هامشا مسحوقا مضروبا بالسياط، ممزقا لحمه وشعوره بالحرمان البغيض. يقول بطل القصة اللابطل: "مِن أَيْن لِي بِالْمَال أَو الْغَلَّة فِي هَذِه الْأيَّام السَّوْداء، لَقَد تَوَقَّفت الْأَعْمَال، وَجفَّت الزِّراعَات، فَلَم يَعُد أحَد يَطْلُبُنَا فِيهَا لِلْعَمَل‏ بِالْأُجْرَة، وَلَسْت مِن الْأعْيان حَتَّى تَكُون لِي أرْض نَزْرَعهَا وَنَأْكُل مِن ‏ خَيَّرهَا".
واستعمل القاص في قصة المجموعة العمدة "كيلة قمح" أسلوبًا في القصة يشبه المناجاة الدرامية في ثلث القصة الأول بحذفه مقولات زينب الطرف الغائب قوله في الحوار، ونقدم مثالا لهذا الأسلوب: "أَعْلَم أَنَّك وَالصَّغَار جَائِعُون يا زَيْنَب، فَأَنَا أيضا جَائِع مِثْلُكُم.
- .‏‎..................................‎
- لَسْت كَسُولَا يا زَيْنَب، وَلَكِنَّك تَعَلمَيْن أَنّ كُلّ الطُّرُق سُدْت فِي ‏ وَجْهُي ... وَلَسْت وَحْدي يا أَم الْعِيَال، فَجَمِيع رجَّال بَلَدَتنَا مِثْلي، وَلَم يعد هُنَالِك مَا نَفْعَلُه فِي مِثْل حالَة الْاِضْطِراب الَّتِي تَمْر بِهَا الْبَلَد"  

short story
أنَا أيضا جَائِع مِثْلُكُم

والمناجاة الدرامية تقوم على إقامة الحوار الداخلي "حديث النفس" في ذات الشخصية القصصية موجها لطرف آخر لا يحضر، لكن استعمال علامات الترقيم الممثلة في النقاط هنا بديلا عن عبارات زينب يحول السرد شبيه المناجاة الدرامية إلى حتمية قصصية، بمعنى حذف أكبر قدر ممكن من الكلمات، مع الإنفاق بذكاء من ثروة القاص من علامات الترقيم. ففن القصة القصيرة هو فن السرد المقطر، فعبارات البطل القصصي هى مرآة عاكسة لعبارات زينب، بمعنى أن القارئ يستنتجها بيسر من رد البطل المنكوب عليها. كما أضفى هذا الأسلوب السردي ميزة موضوعية حيث سلط بقعة ضوء واحدة فقط على بطل القصة المسكين، وهذا الشكل يوافق تماما موقعه الضمنى من حيث مسئوليتة عن أسرته الجائعة، ويقدم تبريرا للحدث الدرامي التالى المتصاعد في القصة بداية من حركته بالسفر إلى "المحروسة"، مرورا بنسيان نفسه ومعركتة الضارية كى يحصل على غرفة من فتات أرز ولحم يطعم بها أسرته البائسة. هو وحده الذي احتل نبض القصة راويا يحكي كل شيء، وهو المضروب المهزوم أبدًا.
القصة تبرر سياق تاريخي، وتفسر طبيعة شعب "الهتيف على لحم بطنه" بتعبير القصة، وتقول فنا إنك لن تجنى إنسانية موفورة الرشد والتكرم والفهم في ظلال من الفقر والمرض والجهل، تقول القصة: "بركاتك يا أَم هَاشِم"... ‏ هَرْوَلْت بِحِمَارِي حَتَّى وَجَدْت أحَدَهَا عَلَى مَشَارِف حَيّ الْجَمالِيَّة، وكَان الْخَدَم يَحْمِلُون آنِيَة اللَّحْم، وطشوت الْأَرْز وَالْفَتَّة، وَقَد بَانَت رَائِحَة هُبَرِ اللّحَم النَّاضِجَة مِن بَعيد، حَتَّى طَيَّرْت مَا بَقِيَ مِن ‏ عَقَل فِي رَأْسِيّ، فَنزلْت مِن عَلَى الْحِمَار مَجذوباً ...".
الراوي المحروم من أبسط حق له فى الحياة وهو أن يجد حاجاته وحاجات أسرته الأساسية قدم مشهدا زاخرا بالحركة، منسوجا بمفردات موفقة من بيئتها "طشوت / هبر"، كما فسرت موقفا نفسيا بمفردة "مجذوبا" وضعها القاص مثلما يضع الصائغ ذهبه فى ميزانه الحساس. ورغم مكر الليل والنهار فالشعب يفهم كما يردد بعض الخبثاء، وطبيعى فى المناخ المريض أن من يفهم سياق الأمور يصنف خبيثا. 
وتموج القصة باللمسة الإنسانية فى تعاطف زينب مع زوجها الممرور، وتضحيته هو لأسرته الكسيرة، مع عظم الثمن المسدد من دمائه وثروته بضياع حماره، وهى خسارة عظيمة رماها القاص في ثلث قصته الأول لدى شروعه في رحلة المحروسة أن الحمار فرد من العائلة وأساس عيشها. والقصة تتناص مع مفردات شعبية تداولية، ومن آثار شعبية أخرى، مثل المثل العربي "عاد بخفى حنين" عندما فقد مركوبه، فذهب يبحث عنه ففقد حماره.
قرأت مرة للناقد المستقل الذى لم تغشَ روحه آراء وثقافات مجلوبة لغير بيئتها د. عبدالحميد إبراهيم، ينتقد القول حول رواية "العجوز والبحر" لإرنست همنجواى أنها تبرز الصراع الإنساني ضد قوى الطبيعة، يقول: "إن الصراع عند همنجواى يركز على القدرات الفردية، وهو صراع غير هادف، ينتهى بصاحبه إلى لا شيء"، لكن الصراع فى قصص "كيلة قمح" كشف سياقا تاريخيا وفسر أمورا اجتماعية جليلة الخطر لا تخفى علي لبيب.
والقصة – مثل كل نص - لها نافذة مضيئة – تسمى مقولة النص - ادخرها القاص للسطر الأخير، مع رعاية استعماله النواحي التشكيلية بتسميك بنط الخط في عبارات معينة كأنما يخبر القارئ أنا قصديتي هنا، ونوافذكم لقصتى أن تطلوا من شبابيك هذه العبارات.
رغم مهارة القاص ووعيه لمسألة تقطير السرد، ومفرداته الموظفة بعناية نجد عبارته: "... عَلَى أَمَل أَن يَجِدُوا فِي الصَّبَاح مَا يَسدّ رَمَقهُم ‏ لِيُوَاصِلُوا يَوْما جَدِيدا فِي حَرْبِهُم مَع الْجُوع، وَيَوْما يَجِر يَوْم حَتَّى يُقَابِلُوا رَبَّهُم جَائِعِين ...." ‏وهى من وجهة نظرى البسيطة غير الملزمة تؤكد ما سبق تأكيده، ولو لم تكن هذه العبارة فلن يحدث فارقا، فالقصة البديعة صدحت بالتاريخ المسكوت عنه.

في قصة "القبو" نجد بطولة المكان، حيث القبو أسفل القصر موطن التاريخ، حيث ُتحفظ فيه الوثائق، وحيث هو سبيل للنجاة، يقول بطل القصة الكاتب المصري عندما خطط لهروب الملكة كليوباترا بصحبته، من قبضة الغزاه الرومان: "حملت مشعلي وتسللنا إلى القبو ... كنت أعرف سردابًا يلقي بنا خارجًا بالقرب من الفرقة"، كما كان "القبو" موطنًا لإنقاذ الذاكرة والهوية في فعل الكاتب المصري النابه: "... لأنزوي في القبو لأسابيع، منكب على تنظيم وتنسيق ما لم يحترق وما تم إنقاذه من المكتبة، وتم تكديسه في القبو منذ أوان حريقها المشؤوم". 
وفي موطن قصصي آخر يظهر حرص الكاتب على هويته ومصريته: ".. ويومها سقَطتُ باكيًا حتى غبت عن الوعي حين سمعت أن المكتبة احترقت عن آخرها، واحترق معها كل تراث الأجداد الذين أفنوا أعمارهم من أجله". فالقبو له رمزية تشير في تأويلى للشعب المصري الذي يتألق معدنه لدى عصر الأزمة.
وقد عمدت القصة لأسلوب خيالي ينتمي لما يعرف بالتاريخ البديل، حيث عصف بالملكة المصرية الجميلة العدو وأجبرها علي احتساء السم، فلم يكن موتها انتحارا كما جاء فى التاريخ.
والرمزية أيضًا ظهرت في صورة شخصية الحدث الرئيس الكاتب المصري مستشار الملكة الشخصي، وحافظ سرها، حيث مثل صورة "المثقف" الواعى، المحب لمليكته، والتى أرى فى تأويلى لها أنها مصر التى يفتديها بروحه، دلني شواهد من نصه القصصي، أشرقت بتلك اللمسة الرومانسية المتبتلة: "ثم تكلمت فأشرقت شمس "بؤونة" الحارة الحارقة في صدري دفعة واحدة، ولم تغرب للآن، ولا حجبها ظل"، ثم بفعل المقاومة الكريم في القصة: "ليعرف الجميع أن مصر مازالت تقاوم".
وقدمت القصة برمزها للوطن ممثلا فى امرأة بارعة الجلال فى جمالها – كما أقدر ذلك - أدوات الظفر الثقافي: "اندهش الجميع من قدرتي على تنميق الكلام والوصف، ومعارفي المختلفة التي حفظتها وهي تسقط صافية إلى عقلي - الجائع دائما للمعرفة". لذلك هى قصة تبث الأمل نحو رفعة مصرنا الحبيبة عبر لغة تمور بالحركة، يقول مجاز القصة عن لحظات الفجر ومدافعته للظلمة: ".. حاول الفجر إزاحتها بشفقه الأحمر بازلاً كل جهدة لتحريك تلك الجبال الراسخة من الظلمة والضباب بإصرار متمهل". 
في خلال أسابيع تم إقصاء المستشارين المصريين والبطالمة وحل محلهم الرومان، الذين انتشر جنودهم في الأسواق والحقول، بفظاظتهم وغطرستهم التي لو ألقيت في ماء النيل لفاض ماءً مالحًا منتنًا قبل أوان فيضانه.
فالحكمة والسياسة كانت تقتضي التحالف مع منافسه (أوكتافيوس) ربيب القيصر المسيطر، لا سيما أنه يحتفظ تحت يده بولدها قيصرون الوريث الشرعي لعرش روما ...
لكنني لم أجرؤ، ولم تستمع أبدًا لنصائحي في هذا الأمر بالذات، بل بدأت تتجاهلني معظم الوقت حتى توقفت عن الاستماع لي نهائيًا.