لا أحد بريئا في "الصبية والليل"

تنطلق رواية الكاتب الفرنسي غيوم ميسو بثلاثة مشاهد تذكرك بما يتوالى في بداية الأفلام السينمائية عندما تظهر تواريخ معينة مصحوبة بحركات خاطفة للشخصيات.
التفاوت في المرويات حول تشابك مصير الشخصيات
إمكانية التقاطع بين رغبات دفينة في أفعالها

ما يزيدُ من حركة السرد زخماً وتشويقاً في العمل الروائي هو الحدثُ، إذ يكونُ الإيقاع أسرعَ كلما تصاعدَ دور الحدث في النهوض بالشخصيات المتقيدة بالأدوار المساندة أو المُكَمَلة، فبالتالي يكون للحدث إمتداد في مواقف الشخصيات، وبهذا يستمرُ الترقبُ والإفتراض بشأن ملابسات ما يترتبُ من الحدث الأساسي وافتضاض ما يكتنفه من الغموض، وما يولد على أثره من التفاوت في المرويات حول تشابك مصير الشخصيات، وإمكانية التقاطع بين رغبات دفينة في أفعالها، ربما تبدو مفاجئة لأول وهلة، لكن لا تنقطعُ عن حيثيات البنية التي تقوم عليها الرواية.
هذا البرنامجُ في صياغة المادة السردية هو ما يشتغلُ عليه الكاتب الفرنسي غيوم ميسو في روايته "الصبية والليل" الصادرة أخيرا من دار أنطوان، إذ تنطلقُ الرواية بثلاثة مشاهد تذكرك بما يتوالى في بداية الأفلام السينمائية عندما تظهر تواريخ معينة مصحوبة بحركات خاطفة للشخصيات، ويتمُ إدراك وظيفة هذه المؤشرات لاحقاً كما يفهمُ دور المكان المشار إليه ضمن المقاطع الأولى مع مضي السرد، فإنَّ موقع الليسيه سانت إكزوبيري يصبحُ بؤرة للحدث الذي ينتظمُ من خلاله تيار السرد، ويأبى المؤلف إلا أنَّ يصعدَ التوتر الدرامي في مستهل عمله حيثُ تجدُ "مانون" وهي خريجة الليسيه، نفسها أمام جثة هامدة ويخترقُ صوتُ الصمت الذي يعقبُ الشعور بالصدمة معترفاً بإرتكابه لجريمة القتل. 
وما تكشفُ هوية الجاني وضحيته إلا قبل الأجزاء الأخيرة من الرواية هنا تتبدل المواقع وتدخلُ شخصيات أخرى في حلبة الحدث الدامي. وما أنَّ يوكل بمهمة سرد الرواية إلى المتكلم بالضمير الأول حتي تنضم أصوات جديدة إلى فضاء العمل إذ يستدعي توماس ما أخبرهُ به صديقه عبر مكالمة تليفونية. مع أنَّه لايتم الإعلان عن فحوى المكالمة لكن الإستبطان الذاتي للراوي يوحي بأنَّ شبح ما حدث قبل 25 سنة في مبني الليسيه يلاحقه ويهدد حياته. طبعاً هذه الوضعية المتأزمة تأخذ المتلقي نحو سلسلة من الإفتراضات والتوقعات المسبقة وبذلك يكونُ إيقاع العمل أقرب من نمط الروايات البوليسية والمطاردة.

ثمة مؤشرات تتقاطع فيها حياة غيوم ميسو مع تركيبة شخصية توماس ومن المعلوم بأنَّ الأخير ليس إلا كائناً ورقياً سابحاً في عالم الرواية

شبكة الشخصيات
لا تخرج الشخصيات التي تتحركُ في مساحة الرواية من إطار البنية المكانية المحددة، يستعرض الراوي زملاء الدراسة في سانت إكزوبيري متأملاً ما عملهُ الزمن في وجوه البعض، فيما أصبحَ عدد من التلاميذ القدمي أكثر رشاقةً وجمالا، فمانون أغوسيتني الخجولة والبشعة تحولت إلى امرأة حسناء إذن تتواردُ أسماء المشاركين في الإحتفال الذي أقيم بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس الليسيه. لكن آلة السرد لا تتبعُ إلا من يكونُ ضمن دائرة الحدث وما يؤرق الراوي ورفاقه ليس ترشحَ أخبار جديدة عن إختفاء فينكا، إنما مشروع تأسيس مبني "البرج الزجاجي" مكان الجمنازيوم الذي ظل السر قائماً في أحشائه الإسمنتي.
يبوحُ الراوي بأنَّه كان ينتظرُ بفارغ الصبر حلول الشيخوخة ليطوي الزمنُ أثر ماضيه المثقل بسرٍ إذا انكشفَ فذلك يعني اقتياده إلى مصير مشؤوم. عليه نجحَ المؤلفُ في تغليف أجواء الرواية بالغموض وذلك حين يتلقى كل من توماس وماكسيم وفاني رسالة من المجهول. ومن ثمَّ يلمحُ الحديثُ إلى نهاية مأساوية لحياة فرنسيس والد ماكسيم، ولا يغيبُ التساؤل عن علاقة ذلك بمقتل كليمان الذي توهمَّ توماس بأنّه كان عيشقاً لفاتنة الليسيه. فينكا ابنة ممثلة متحدرة من أنتيب بولين لامبير التي تتعرف على مارك روكويل، فالأخير كان من ماساتشوستس إذاً ولدت فينكا من هذه المغامرة العاطفية. وما أنْ تبلغ إلى عهد الصبا حتى تفقدُ والديها إثر كارثة جوية. وتنتقلُ إلى سانت إكزوبيري وتستأثر هناك باهتمام الجميع.
يقعُ الراوي في غرامها ولا يكتفي بوصفها على المستوى الخارجي إنما يلفتُ إلى اهتماماتها الثقافية والفنية وعشقها للفلسفة وسينما تاركوفسكي. فكانت مواصفات فينكا توهمك حسب كلام الراوي بأنك إذا توصلت إلى إمتلاكها تنجحُ في إمتلاك العالم لعلَّ هذه الجملة هي ما يستعيدهُ ذهن المتلقي حينْ ينفتحُ قوس السرد على حزمة من الروايات المتضاربة حول مصير فينكا وحيثيات إختفائها إذ ينشرُ صديقها الصحافي ستيفان بيانلي كتاباً عن هذا الموضوع بعنوان "الموت والصبية" رافضاً فرضية هروب فينكا بصحبة أستاذها. 
الملاحظُ في ضيمة شخصيات الرواية هو توافق مهنة هؤلاء مع سياق الحدث. فتوماس هو روائي، ستيفان بيانلي صحافي، دالانيغرا مصور، كذلك كلود أنجوفين هو رئيس تحرير مطبوعة نيس ماتان. وذلك ينبيءُ بأنَّ السرد يقومُ على ثيمة البحث.
إفتراض مضاد  

novel
صوتُ الصمت 

غزت قصة الحب بين فينكا وأليكس كليمان سانت إكزوبيري وتعددت الروايات حول إختفاء الاثنين، وانساق الأستاذة أيضاً إلى تيار الشائعات لكن ستيفان بيانلي لا يركن إلى معلومات مُستهلكة، كما أنَّ آلاستير روكويل جد فينكا رأي في تغيُب حفيدته عملية إختطاف منظمة، والأهم في سيل المعلومات هو ما يرويه توماس عن فينكا، وما تسربَّ عن علاقة الأخيرة بأستاذها واعترافه بما أثار لديه ذلك الأمر من الحساسية والغيرة. ومنَّ ثمَّ يقعُ نظره على الرسائل التي تؤكدُ توله أليكيس بفينكا، ولكن لماذا تلوذُ بتوماس عندما تحلُ بها أزمة صحية وتخبره بأنها حامل؟ يستتبعُ ما تقولهُ ذات الشعر الأصهب عن مسؤولية ألكسيس عن واقعها المتأزم حدثُ يشتدُ معه التوتر إذ يتداعي في ذهن توماس محتوى رسائل ألكسيس والحال هذه يتواطأُ مع صديقه على قتل العشيق، ولولا تدخل فرنسيس بيانكارديني، وقيامه بدفن الجثة داخل الجمنازيوم لكان توماس موصوما بالجريمة وما تمكن صديقه أيضاً من المشاركة في حملة ماكرون الإنتخابية. وما لبث أن يتمَ كشف مصير الصبية المجهولة على لسان فاني عندما تعترفُ لتوماس بتورطها في قتل فينكا بدس أقراص منومة في الشاي. 
ومن جديد يقومُ فرنسيس بالتعاون مع أنابيل بإخفاء الجثة في الجدار، والأغرب من ذلك هو قيام فاني بتمثيل دور فينكا لترويج خبر هروبها برفقة الأستاذ، الأمر الذي يؤكده حارس الليسيه لافتاً إلى رفع الحاجز من مدخل الحرم من صباح ذلك الأحد الشهير ليسمح بخروج الاثنين.
مع تعاقب وحدات الرواية وبحث توماس عن سر المغلفات يتأكدُ بأن والده ليس ريشار إنما فرنسيس، ما يعني أنَّ ماكسيم هو شقيقه والأهم من كل ما سبق ما يتوصل إليه توماس عن العلاقة الجسدية بين ريشار وفينكا حيثُ أقنعتها عشيقتها ألكسيس دوفيل بأنَّ تنجب طفلاً وبهذا تنقلبُ القصة وتتبادل الأدوار بين شخصياتها، فكان ألكسيس كليمان ضحية تشابه اسمه مع عشيقة فينكا والرسائل الموقعة باسم ألكسيس تنقصها مفردة دوفيل حتى لا يقع إلتباس يفتحُ حلقة أولى لسلسلة من الجرائم وحوادث القتل إذ بعد خمس وعشرين سنة يخبرُ أحمد قبل أن يودي به مرض السرطان بسر إختفاء فينكا لعشيقتها وما من الأخيرة حتي تبدأُ بحملة ثأر على المتورطين في مقتل الصبية.
والمشهد يكون أكثر دراميةً إذا أضيف حادث انتحار جان كريستوف غراف بعدما يخفق في كسب ود ألكسيس ودفيل المتيمة بحب فينكا. 
يذكر أنَّ ثمة مؤشرات تتقاطع فيها حياة غيوم ميسو مع تركيبة شخصية توماس ومن المعلوم بأنَّ الأخير ليس إلا كائناً ورقياً سابحاً في عالم الرواية، لكن الكاتبُ يخافُ من إتهامه بالتورط في جريمة وهي من صنيع خياله لم تقعْ في الواقع، وهذا ما يؤكد تمكن الروائي ومعايشته للحدث والوقائع المتخيلة وذكائه في إيجاد المشتركات المكانية والزمنية والمهنية بين حياته الشخصية ومكونات عمله الروائي ما تفوق فيه ميسو هو بناء الحدث وما تتبعه من التحولات في آلية سرده، وتوظيف تقنية الصورة الفوتوغرافية والخبر في تأثيث أجواء تتصارعُ فيها المرويات.