لا رئيس قوي ولا حكومة عهد

في لبنان، رئيس الجمهورية بعد الطائف أصبح رئيس وصاية على الدولة أكثر مما هو رئيس الدولة.

في لبنان جميع رؤساء الجمهورية، قبل "الطائف" وبعده، يعتبرون أول حكومة يؤلفونها هي حكومتهم الأولى والأساسية ومنها ينطلق عهدهم، فيما حكوماتهم التالية هي حكومات القوى السياسية والبرلمانية وبها يتلاشى العهد. أما العهد الحالي فيعتبر حكومته الأولى حكومة الآخرين فيما ستكون الحكومة المقبلة - الأخيرة ربما - حكومته الأولى، ومنها يبدأ رغم مرور نحو سنتين على انتخاب الرئيس. إنها لبدعة؛ ونحن أصلا في زمن البدع عوض أن نكون في زمن الإبداعات...

إذا لم تكن الحكومة المستقيلة حكومة العهد، وما ترك منصبا من دون أن يعين جماعته في الإدارة والديبلوماسية والقضاء والأمن والعسكر والمؤسسات العامة، فكيف لو ان الحكومة حكومته؟ وماذا عن المشاريع والعقود التي أقرتها هذه الحكومة في الكهرباء والاتصالات والمواصلات والسياحة والمطار والصناعة وفي الأملاك البحرية والبرية و... الجوية؟ أكانت إنجازات العهد أم إنجازات حكومة الآخرين وإليهم يعود الفضل؟ قرروا... لا يستطيع العهد أن ينكر أبوة هذه الحكومة، وأن ينسب إليه "إنجازاتها".

الحقيقة أن الحكومة المستقيلة كانت حكومة العهد أكثر مما ستكون أي حكومة مقبلة. وأصلا، بعد دستور الطائف لم تعد أي حكومة حكومة رئيس الجمهورية لا في بدء العهد ولا في منتصفه ولا في نهايته. كيف تكون الحكومات حكومات العهد، ورئيس الجمهورية لا يختار رئيس الحكومة، ولا يعين الوزراء، ولا يحضر البيان الوزاري، ولا يضع جدول الأعمال، ولا يترأس مجلس الوزراء إلا إذا حضر، وحتى إذا حضر لا يحق له التصويت؟ فعوض أن يرعى دستوريا يراعى أدبيا، هذا إذا توفر الأدب.

لذا، بموازاة تأليف حكومة جديدة، يجدر بالعهد أن يضع مقاربة جديدة للتعاطي مع قضايا الناس والدولة والوطن، فيفصل فعليا بين الرئاسة وحزبه. كما يجدر به أن يعيد تحديد دوره وسلطته ووسائله لئلا يصدم بالفارق بين الطموح المشروع والواقع الشرعي. إن مقولة "الرئيس القوي" ساقطة عموما، فلا قوة من دون قدرة، ولا قدرة تقريرية لرئيس الجمهورية من دون صلاحيات، ولا عودة للصلاحيات من دون نظام آخر (الأزمة الحكومية خير مثال).

صحيح أن صلاحيات رئاسة الحكومة ليست فائضة، لكن صلاحيات رئاسة الجمهورية ناقصة. والخطأ أن هناك من ادعى أن "الرئيس القوي" قادر على صنع العجائب، فيما العجيبة الحقيقية هي دستورنا، فأصيب الشعب العظيم بخيبة أمل. لا يوجد رئيس قوي بصفته الدستورية، بل بصفته التمثيلية، وهي حال الرئيس عون.

رئيس الجمهورية بعد الطائف أصبح رئيس وصاية على الدولة أكثر مما هو رئيس الدولة. وإنني اختبرت الفارق على الصعيد الوزاري، إذ إن وزير العمل، وهو وزير الوصاية على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لا يستطيع أن يعين حاجبا ما لم يوافق مجلس إدارة الضمان أو مدير الصندوق. وما قام به العهد من تعيينات أثناء فترة الحكومة الحالية جاء في سياق التسوية الرئاسية والمحاصصة لا في إطار الصلاحيات الرئاسية.

لذلك، حاول بعض رؤساء الجمهورية في الثلاثين سنة الأخيرة استئجار قوة سياسية أو أمنية لتزويد رئاستهم بسلطة إضافية، فدفعوا ثمن استئجارها من كرامتهم وكرامة اللبنانيين ومن سيادة لبنان والقرار الحر (لنتق شر الاستئجار). والأسوأ، أنهم لم يوظفوا هذه القوة غير الدستورية وغير الذاتية لتعزيز الرئاسة وتحصين لبنان، بل لتدبير المكائد ضد قوى لبنانية أخرى ولإضعاف لبنان وتوازنه وتوطيد الاحتلال.

لقد كان هؤلاء الرؤساء قادرين على التعويض عن ضعف صلاحياتهم بسلوك وطني وأخلاقي آخر. وأساسا، صار خفض صلاحيات الرئاسة يحتم اختيار رئيس يعوض عن ضعف صلاحياته بمزايا شخصيته. في بداية عهده سنة 1789، قال جورج واشنطن: "لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يدني أخلاقه العامة، وعليه التصرف بشكل يحفظ كرامة منصبه".

وفي اعتقادي أن رئيس جمهورية لبنان، بالرغم من محدودية صلاحياته، قادر أن يفرض نفسه على الجميع ويكون المثل والمثال فعليا من خلال ما يلي:

  • التمتع بشخصية متجردة ونزيهة وبمهابة وطنية،
  • إحاطة شخصه بشخصيات مخلصة له، كفية ومترفعة، فلا تستغل مواقعها للمنفعة الخاصة،
  • التموضع فوق الأحزاب والتيارات والطوائف، والالتزام بالثوابت الوطنية التاريخية،
  • التواصل مع أكثرية نيابية رئاسية تستأنس بمواقفه وبمشروع حكمه،
  • الحصول على حصة "وازنة أخلاقيا" في الحكومة تدافع عن المصلحة الوطنية العليا وتلعب دور الحكم والوسيط في اجتماعات مجلس الوزراء،
  • إنهاء بدعة الـ"ترويكا" الرئاسية واحتضان رئيسي مجلسي النواب والوزراء لتتكامل السلطتان التشريعية والتنفيذية فتقويا رئيس الجمهورية، رمز وحدة لبنان،
  • تكوين فريق فكري مصغر، حكيم ومتعدد الطوائف، يضم مفكرين أكاديميين يعود إليهم الرئيس في الخيارات الوطنية والميثاقية والتاريخية والدولية،
  • اختيار النخب الفضلى في التعيينات الوزارية والإدارية والمؤسساتية ليكون من يختارهم الرئيس قدوة العمل والنزاهة والوطنية،
  • دعوة الأحزاب والكتل النيابية إلى اختيار أفضل من لديها لتوزيرهم لأن القرار صار في مجلس الوزراء،
  • التشاور الدوري مع قادة البلاد ومرجعياتها الروحية، ولو من دون مناسبة، وكأن هناك هيئة حوار وطني دائمة،
  • زيارة اللبنانيين في قراهم وأقضيتهم ومحافظاتهم ومغترباتهم للاطلاع على وضع المناطق وهموم الناس مباشرة،
  • إقامة علاقات ديبلوماسية وثيقة مع المجتمعين العربي والدولي، ورؤساء الدول، وإلقاء محاضرات منتظمة في مراكز الدراسات العالمية ليبقى لبنان على جدول اهتمامات العالم، ولتكون رئاسة الجمهورية اللبنانية هي عنوان الدول الصديقة.
  • لعب دور في حل النزاعات العربية/العربية (السعودية وقطر) والإقليمية (إيران ودول الخليج)، إلخ...

هكذا رئيس جمهورية لبنان، ما قبل الطائف وما بعده، يكون رئيسا قويا ومحترما ويستمد دوره وسلطته وهيبته من شخصيته وسلوكه قبل أن يستمدها من صلاحياته.