لا عودة إلى معادلة حافظ الأسد

لا طاقة للبنان على الانزلاق في هذا المسار العسكري. لا بالأمس حين كان لبنان مزدهرا فيدمر، ولا اليوم وهو منهار فيموت.
حزب الله يحيّد سوريا ويورط لبنان!
ليس للفشل ثمن فقط، بل عقاب أيضا
الدولة الأصيلة غائبة والمتوفر في السوق هي دولة حزب الله

ما حصل أول من أمس، (الإثنين 27 تموز الجاري) في جنوب لبنان هو اعتداء إسرائيلي دون حصول عملية حزب الله، أو هو رد إسرائيلي على عملية كاد أن يقوم بها الحزب. جميع المعلومات الدولية، لاسيما معلومات القوات العسكرية في الجنوب، بما فيها القوات الدولية، تؤكد الحالة الأخيرة. في الحالتين ما حصل هو انتهاك لسيادة لبنان، لهيبة الدولة، للدستور، للمؤسسات العسكرية وللقرارات الدولية. لكن أجائز استخدام كلمة "انتهاك"، والسيادة والدستور والهيبة و... مفقودة؟ لم يكن حزب الله وإسرائيل طرفي الانتهاك فقط، بل الشرعية اللبنانية أيضا، إذ عوض أن تطرح تفرد حزب الله بالقرار اللبناني وتصرفه بالأمن القومي دون احترام أحد، غطته واكتفت بتنفيذ أمر يقضي بتقديم شكوى إلى الأمم المتحدة ضد إسرائيل. من حق الدولة أن تشكو إسرائيل إلى الأمم المتحدة، لكن أين يقدم الشعب شكواه على حزب الله؟ الدولة الأصيلة غائبة والمتوفر في السوق هي دولة حزب الله.

إن اعتدت إسرائيل على لبنان فهي عدو، والعدوان رذيلة العدو. لكن لماذا حزب الله يعرض البلاد للخطر، وهو حزب لبناني يصف سلاحه بأنه لحماية لبنان؟ ليست الحماية تحديا وانتصارا، بل أمن وسلام. إسرائيل ضربت حزب الله في سوريا، فليرد عليها من سوريا. إذا كانت حجته أن سوريا ليست أرضه ودولته، فماذا يفعل إذن هناك؟ وإذا كان النظام السوري، وهذا هو الواقع، يمنعه تسخين جبهة الجولان حرصا على السلام مع إسرائيل، فهل يرتد حزب الله على لبنان ويرد منه؟ بمعنى آخر، حزب الله يحيد سوريا ويورط لبنان. أتفجير الوضع في جنوب لبنان كان الهدية التي يعتزم حزب الله تقديمها للجيش اللبناني الصابر في عيده يوم غد الأول من آب؟

إن نوعية العلاقة القائمة بين الجيش اللبناني وحزب الله بتوجيه صارم من السلطة السياسية تكاد تطيح المساعدات الأميركية المبرمجة للجيش. لا تطلب واشنطن من الجيش اللبناني أن ينزع سلاح حزب الله ويقاتله ويعرض البلاد لعواقب أمنية، لكنها تتمنى أن "يستخدم الجيش السلاح الحديث الذي تقدمه له تباعا لبسط سلطته وتأمين تنفيذ دقيق وصحيح وفعال للقرار الدولي 1701". وما حصل على الحدود اللبنانية/الإسرائيلية يوم الإثنين الماضي زاد تساؤلات كبار المسؤولين في البنتاغون حيال جدوى استمرار برنامج المساعدات العسكرية ما لم يلمسوا تغييرا في موقف السلطة اللبنانية حيال الوضع الجنوبي. ما هي هذه السلطة التي تضبط جيشها عوض أن تضبط حزب الله؟ وما هي هذه السلطة التي ترفض تفعيل عمل القوات الدولية وتحمي السلاح غير الشرعي المكدس جنوبي الليطاني خلافا للقرار 1701؟

حين ذهب حزب الله إلى القتال في سوريا، دعا السيد حسن نصرالله اللبنانيين إلى التمييز بين دوره في لبنان وقتاله في سوريا؛ كأنه يفصل بين الساحتين ويحيد الحياة السياسية اللبنانية عن الصراع في سوريا وحولها (خطبه بين بين سنتي 2015 و2016). احترم حزب الله هذا "الوعد" ولم يحم جبهة الجنوب رغم الغارات الإسرائيلية المتكررة التي تعرض لها في سوريا وذهب له فيها ضحايا، وحتى رغم الخروقات الإسرائيلية في لبنان جوا وبرا وبحرا.

لا يعود التحول الحالي لدى حزب الله لأنه خسر شهيدا جديدا، والشهداء عموما يستحقون أن ننتصر لهم، إنما لأن مرحلة جديدة بدأت في لبنان وسوريا عناوينها: تحجيم الهيمنة العسكرية الإيرانية، إعلان الحكم باغتيال الرئيس رفيق الحريري، امتحان الحكومة الإسرائيلية الجديدة، إحراج الإدارة الأميركية قبيل الانتخابات الرئاسية، والتضييق الغربي على مساعدة الحكومة اللبنانية الحالية المحسوبة على حزب الله. وأضيف أن حزب الله يظن أن تعكير أمن إسرائيل على حدودها مع لبنان قد يدفعها إلى تخفيف القصف على قواته في سوريا، أي أنه يحاول أن يقيم معادلة جديدة: أمن حدود إسرائيل الشمالية من أمن حزب الله في سوريا. كان يمكن لهذه المعادلات أن تجد آذانا مصغية في فترات اللاحرب واللاسلم. الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد طبقها مع إسرائيل في جنوب لبنان طوال السبعينات والثمانينات الماضيات. لكننا اليوم في فترة تغيير استراتيجي في لبنان وسوريا، ولا تنفع هذه المسكنات العسكرية أمام عمق التحولات السياسية والكيانية الآتية لا محال.

مهما كانت أسباب "عودة" حزب الله إلى الجنوب، لا يجوز أن يعود لبنان إلى الحرب ويرمى من دون قرار وطني في الحرب الدائرة حاليا بين أميركا وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى. فإذا ما يجري ليس حربا، فكيف تكون الحرب؟ حصار أميركي قاس على إيران، وعقوبات مؤلمة، وتحريك الاحتجاجات الشعبية في مدن إيرانية، وتفجير مراكز نووية وحيوية، وعمليات عسكرية إيرانية ضد أميركا وحلفائها في الخليج وبغداد، وحصر النفوذ الإيراني في العراق، واغتيال قاسم سليماني، وعقوبات على حزب الله، وغارات مدمرة على القوات الإيرانية وحلفائها في سوريا. إنها الحرب.

لا طاقة للبنان على الانزلاق في هذا المسار العسكري. لا بالأمس حين كان لبنان مزدهرا فيدمر، ولا اليوم وهو منهار فيموت. وخلافا لما سوق له البعض، ما جرى في الجنوب لم يضعف طرح الحياد، بل عززه، إذ كلما تعرض لبنان لخطر بسبب حرب لا علاقة له بها - ولا علاقة لنا بحرب إيران وحزب الله في سوريا - كلما تأكد أن الحياد ينقذ لبنان من هذه المغامرات العبثية. لا أدري من ربح ومن خسر في المواجهة الأخيرة، لكن الواضح أنها ستعقد التجديد للقوات الدولية من دون تعديل معين. فالقرار 1701 جيد بنصه وسيئ بتطبيقه. قدر هذه الدولة الفاشلة أن تعطل حسن تطبيق كل الحلول الدستورية والأمنية من "اتفاق الطائف" إلى القرارات الدولية مرورا بالتسويات السياسية. ليس للفشل ثمن فقط، بل عقاب أيضا (سننتصر).