لا معنى لأيّ نقاش حول توبة الإرهابيين

المفكر التونسي المتخصص في الفلسفة فتحي المسكيني يؤكد أنّ قتل الأبرياء ليس زلّة؛ أي ليس فعلاً من الصغائر يفعله الفاعل من غير قصد؛ بل هو معصية.
المسكيني يطرح تساؤلات جد مهمة وخطيرة، من بينها: ما هي صلاحية مطالبة الجهاديين؟
التوبة ليست فشلاً إجرائيّاً؛ بل هي قرار شرعي، حيث لا معنى لأيّ عامل نفسي

يؤكد المفكر التونسي المتخصص في الفلسفة فتحي المسكيني أنّ قتل الأبرياء ليس زلّة؛ أي ليس فعلاً من الصغائر يفعله الفاعل من غير قصد؛ بل هو معصية؛ أي فعل حرام يقصد إلى نفسه مع العلم بحرمته. ويقول "إنّ المؤمن لو كان يعتقد أنّ القتل ليس معصية؛ بل جهاد صُراح، فهو في حِلٍّ من أيّ توبة، ومن ثَمَّ إنّ النقاش معه على أساس التوبة هو مغالطة فقهيّة لغير الناطقين بها. لا يندم المرء على المباح أو على الطاعة لأولي الأمر؛ هذا يعني أنّ الإفتاء بالقتل يجعل المؤمن في حلٍّ من التوبة. وفجأة يتعقّد الإشكال؛ لأنّ التكليف قد غيّر من وجهه. لا يندم، إذاً، إلا من كان يشعر أنّ فعله معصية دينية وليس مجرّد زلة شخصية. قال التهانوي "من ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع أو خفة العقل أو الإخلال بالمال والعِرض لم يكن تائباً شرعاً". هو يميّز هنا بين ما هو ديني (المعصية) وما هو إنساني (صداع، خفة عقل، إخلال بالمال والعرض)، بين ما يدخل في الحياة الخاصة وما هو عمومي. لكنّ ذلك يعني أيضاً: أنّ خفّة العقل قد تحمينا من مسألة التوبة. إنّ المجنون غير مكلّف، ومن ثَمَّ لا يمكن مطالبته بالتوبة، والمريض أيضاً لا يمكن أن نطالبه بالتوبة عن مرضه، وكذا المخلّ بماله وعِرضه.
ويتناول المسكيني في كتابه "الإيمان الحر أو ما بعد الملة" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، مفهوم الإيمان الحر بوصفه ورشة تأويلية وليس عقيدة جاهزة؛ ليبحث ملامح المفارقة الآتية: ثمّة حريات غير حرّة. ويمكن للمرء أن يستقلّ دون أن يكون حراً. والعبيد والأحرار لا يستقلّون بالطريقة نفسها. ويقول "من دون أن نحتاج إلى تنصيب أيّ عدوّ افتراضي من أجل التفكير ضدّه، حتى نشعر بأنّنا حقّقنا شيئاً يُذكر؛ علينا أن نرتاب من أيّ حرّية غير حرّة، نعني حرية لا يمكن لأيّ جهة أن تستعملها بوصفها أداة لشيء آخر.
ويحذر من الذين يعوّلون على أجوبة أخلاقية على أسئلة التفكير. ويشير إلى إنّ "تملّق الأمة هو فنّ العديد من قرّاء التراث؛ مثله مثل تملّق الحداثة أو تملّق الليبرالية... إلخ. تملّق الهويّة لم يعد يليق بالأرواح الحرة. كلّ تفكير في الاختلاف "الهووي" من الصعب ألّا ينقلب إلى مجرّد ألقٍ أسلوبي أو تنويعات جمالية على مشكل يقع خارج أفق الفن. وعلينا أن نحترس من الخلط بين الاختلاف الجمالي والخلاف الفقهي. هما ينتميان إلى ثقافتين متباينتين تبايناً شديداً. قال كانط "من العبث أن نتوقع من العقل إيضاحات، وأن نرشده مع ذلك سلفاً إلى الجهة التي يجب عليه بالضرورة أن ينحاز إليها". وآن الأوان لأنْ نحترس من نيّة الاستيلاء على آلة الفلسفة من قِبل مندسّين ميتافيزيقيين لا يحرّكهم سوى طمع لاهوتي مبطّن في تعطيلها من الداخل؛ فهم لا يعطّلون سوى عقولهم. 
كان بعض أسلافنا العظام من حجم الجاحظ، والتوحيدي، والمعرّي، والغزالي، وابن عربي، وابن خلدون.. قادرين تماماً على تعلّم الفلسفة ورفع دعوى التفلسف لكنّهم لم يفعلوا. كانوا على بيّنة من خطورة ذلك: كان الكوني بالنسبة إليهم بمثابة خروج عن أفق الملة. وعلى الرّغم من أنّهم لم يكونوا محقّين في ذلك، كان موقفهم ينمّ عن أصالة أخلاقية رائعة. كان الانتماء عندهم أهمّ من الحقيقة. كان الانتماء هو الحقيقة.
ويطرح المسكيني تساؤلات جد مهمة وخطيرة، من بينها: ما هي صلاحية مطالبة "الجهاديين" بالتوبة باسم السلم الاجتماعية مثلاً؟ أو باسم الدساتير الوطنية؟ ألا يُعدّ ذلك مهاترة ما - بعد - حديثة معهم؟ ويؤكد أن شرط كلّ نقاش عن التوبة مع الجهاديّ المعاصر "أي القاتل باسم الدين راهناً" هو أن نقنعه أوّلاً بأنّ القتل "معصية"؛ فإذا لم يقتنع القاتل بأنّ القتل هو معصية؛ "أي معصية من حيث ماهيته"، فإنّ كلّ حديث عن التوبة هو شجار أخلاقي خارج قواعده. حتى لو أنّه أقرّ بأنّ فعله معصية، يجب أن يصاحب ذلك الإقرار "عزم أن لا يعود إليها إذا قدر عليها". العزم قرار، لكنّ مضمونه ليس الفعل؛ بل تعطيل القدرة على الفعل؛ ذلك يعني أنّ العاجز أو غير المتمكّن من "القتل" لا يُعدّ موضوعاً للتوبة. ومن يترك ما لا يستطيع ليس تائباً. وحده القادر على القتل يمكنه أن يعزم على عدم العودة إلى القتل. 
وهكذا، لا تنتج التوبة عن العجز أو الفشل. التوبة ليست فشلاً إجرائيّاً؛ بل هي قرار شرعي، حيث لا معنى لأيّ عامل نفسي "مثل صداع شارب الخمر أو خفّة عقله"، أو اجتماعي "الإخلال بالمال"، أو أخلاقي "العِرض". ومن ثمّ إنّ توبة المتديّنين تقع خارج مفردات النقاش الحديث عن "النقد الذاتي"، أو "مراجعة المواقف". هي اعتراف بأنّ القتل مثلاً "معصية من حيث هي معصية". وهذا تقرير مقوليّ يتعلّق بمقولة التوبة، كونها موقفاً تأويلياً يفهم المعصية "بوصفها" معصية، وليس بوصفها شيئاً آخر لا يدخل في تعريفها الشرعي. وهي، في الآن نفسه، عزمٌ أو قرار جذري بعدم العودة إذا تيسّرت القدرة على إتيان الفعل نفسه. بذلك يتوضّح أنّ الندم ليس توبة إلا استبشاراً؛ أي كنوع من الدعوة إلى التوبة، وهي دعوة لا يمكن أن تتمّ إلا بين "متديّنين" داخل الجماعية الدينية نفسها، وليس بين "جهاديين" و"مجتمع مدني" حديث.
ويواصل المسكيني تساؤلاته: كيف يمكن الجمع في مستوى حجاجي واحد بين توبة المؤمنين في فقه الملة وتوبة الإرهابيين في قانون الدولة الحديثة؟ إذ بقدر ما تتبيّن طرافة مفهوم التوبة في فقه الملة؛ حيث إنّ التوبة هي صفة عامة للمؤمنين، يرعبنا الدفاع السياسي عن توبة الإرهابيين، وكأنّ مفهوم التوبة يمكن أن يخرج من عقيدة الإرهاب الحديثة. إنّ الإرهاب نوع العدميّة الخاصة بالمجتمعات التي لا تزال تستمدّ من الدين شطراً أخلاقياً حاسماً من مشروعيتها العميقة. ومن ثَمّ إنّ فصل الدين عن الإرهاب هو الشكل الوحيد من تحرير التوبة من غير المؤمنين بها. لا معنى لأيّ نقاش حول توبة الإرهابيين. لا يتوب إلا المؤمنون. موضوع الإرهاب هو قتل الأبرياء. أمّا الإيمان، فهو براءة الله في أفق الإنسانية. وحده الله إذاً يتوب عن المؤمنين.

التصديق هو نسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل نفسه. والإيمان فعل كلامي وليس موقفاً سياسيّاً، وهذا بالتحديد ما طرح مسألة التغاير مع معنى الإسلام

ويستدرك هل يوجد إيمان بلا إسلام؟ ويقول "لو أخذنا ما جاء في "كشّاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي في ما يتعلّق بدلالة الإسلام والإيمان، لوجدنا أنفسنا أمام مسألة مثيرة وجديرة باستئناف المساءلة على الدوام. قيل: "الإسلام هو لغة الطاعة والانقياد، ويطلق على الانقياد إلى الأعمال الظاهرة. وعلى هذا المعنى هو يغاير الإيمان، وينفكّ عنه؛ إذ قد يوجد التصديق مع انقياد الباطن دون الأعمال". والسؤال هو: إذا كان الإسلام ينحصر في الأعمال الظاهرة، وإذا كانت تلك الأعمال تعود في جوهرها إلى مجرّد الطاعة والانقياد، فهذا يعني أنّ الإسلام أساساً بنية سلطة أو تدبير لأمر عام، أو سياسة إرادة عامة لدى أهلها. 
أوّل نتيجة، هنا، هي أنّ مصطلح "الإسلام السياسي"، إذاً، مفهوم زائف. هو حشو خطابي وعلينا الكفّ عن استعماله؛ لأنّه يوحي للسامع بوجود إسلام غير سياسي. وهذا ممتنع سلفاً؛ إذ ليست السياسة غير آليّة الطاعة والانقياد تحت سلطة ما مهما كان نوعها. ثمّ لماذا تمّ حصر التعريف الفقهي في شرط واحد هو الطاعة أو الانقياد؟ ما الذي جعل الفقهاء يختزلون دلالة الإسلام المتشعّبة في معنى الطاعة أو الانقياد؛ أي في نوع من الحرية السالبة؟ وخاصةً: هل ما زال هذا الردّ الفقهي "في معنى الإبوخيا الفينومينولوجية" ضروريّاً، أو هل ما زال يحتفظ بادّعاء صلاحيته بالنسبة إلى مسلمي العصر ما بعد الحديث؟".
ويضيف المسكيني: إذا كان البرادايم الفقهي قادراً على اختراع ادّعاءات الصلاحية الكافية للدفاع عن حقيقة الإيمان الحرّ، فلماذا عزف الفقهاء عنه، وعوّضوه بأنماط من الإيمان لا تختلف عن "الإسلام"؛ أي عن سياسات الطاعة والانقياد؟ لماذا تمّت إزاحة الإيمان من "المعرفة" إلى "الطاعة"؟ ويشير "يبدو الإيمان بمثابة واقعة روحية خطيرة جدّاً لا يجوز للحاكم أن يتركها من دون قيد فقهي. وكلّ تاريخ الملة هو تاريخ تقنيات السيطرة على فعل الإيمان وتدجينه في سياسات الطاعة. وبهذا المعنى، إنّ نقد الدين لا يطال نواة الإيمان. إنّ الدين نفسه عدوّ الإيمان، إذا هو لم يذعن للطاعة والانقياد. ولذلك، يقع العمل بشكل حثيث على ضبط تجربة الإيمان وحصرها في جهاز فقهي صارم. 
وأوّل خطوة داخلية هنا هي القول: إنّ أصل الطاعات هو الإيمان نفسه، ثمّ تلت ذلك مجموعة من التنسيبات تنتهي إلى تجريد الإيمان من نواته الأصلية؛ أي التصديق أو فعل القلب".
ويرى سياسة الطاعة تكمن في ربط الإيمان بشروط غريبة عنه إلى حدِّ صياغة مبدأ خطير جدّاً لسياسة التكفير، مفاده أنّ "من ترك شيئاً من الطاعات فعلاً كان أو قولاً خرج من الإيمان" نفسه. إنّ الخروج من الإيمان هو التهديد الفقهي الرسمي لكلّ إيمان حرّ في أفق الملّة. ومن المؤسف أنّ المعتزلة "أو دعاة العقل في ثقافة الملة" لم ينجحوا في أكثر من تحقيق مكاسب خطابية حول هذه المسألة أشاروا إليها بعبارة "المنزلة بين المنزلتين": أنّ من خرج من الإيمان "لم يدخل في الكفر؛ بل وقع في مرتبة بينهما" نفسه. إنّ نواة الإشكال تكمن في الربط المفترض بين الإيمان وبين الطاعات. هذا الربط حوّل الإيمان إلى حيوان مطارد داخل غابة الملّة. وفتح باب التكفير؛ وهو ما قام به الخوارج؛ إذ هم يرون أنّ "ترك كلّ واحد من الطاعات كفر" نفسه. وعلى الرغم من أنّ السلف يثبتون أنّه "لم يخرج من الإيمان لبقاء أصل الإيمان الذي هو التصديق بالجنان" نفسه؛ فهم لا يتخلّون عن سياسة الطاعة. 
ويشدد المسكيني على أنّ ما يهمّ هذه الأجيال الجديدة ليس الفرق بين الإيمان الموجب "الطاعة" و"الإيمان المنفي" المعصية، أو بين الإيمان الذي هو "منقول شرعي" والإيمان الذي هو "مجاز"، أو بين "الإيمان المنجي" والإيمان غير المنجي من النار؛ بل مدى علاقة الإيمان بالحرية، ولاسيّما الحرية الشخصية. وتكمن أهمّية المسألة، هنا، في الإيمان بوصفه تكليفاً "إنّ الإيمان مكلّف به، والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية، فلا بد من أن يكون التصديق بالقلب اختيارياً". 
وما يهمّنا، هنا، الإشارة إلى أنّ التكليف ليس الطاعة؛ بل تحميل حرية الاختيار. قال القاضي الآمدي "التكليف بالإيمان تكليف بالنظر الموصل إليه وهو فعل اختياري" نفسه. الدعوة إلى النظر في حكمة الخلق ليست من جنس سياسة طاعة. والتكليف بها هو نمط الحرية الموجبة في أفق الإيمان؛ ذلك أنّ التصديق هو كما لدى الأشعري "كلام نفسي" وليس طاعة لأحد. ويتمثّل فقط في "أن ينسب الصدق إلى المخبر اختياراً" نفسه. التصديق إذاً فعل كلامي إنشائي من نوع الفعل "المتضمّن – في – القول" كما صار يقول التداوليون. وأكثر النتائج طرافةً، هنا، هو اعتبار التصديق "كلام النفس"، ثمّ اعتبار كلام النفس هذا "عقد الإيمان" نفسه. ومنه أنّ "التصديق هو نسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل" نفسه. الإيمان، إذاً، فعل كلامي وليس موقفاً سياسيّاً. وهذا بالتحديد ما طرح مسألة التغاير مع معنى "الإسلام".