"لا نزال أحياء" ذلك هو الخبر السعيد

كورونا نقلنا إلى المستقبل ولن يكون في إمكاننا بعده أن نرجع إلى الوراء.
لن يتمكن أحد حتى لو كان رئيس دولة عظمى أن يعد البشر بغد أفضل بسبب الوباء
ما من جهة في إمكانها أن تؤكد أن العدو قد قُتل وأن خطره قد زال

تطرح أزمة كورونا على البشرية فكرة أن ما من شيء يُفقد أو يختفي يمكن أن يُستعاد كما هو. فالحياة التي كنا نعيشها قبل ظهور الوباء واختفت ملامحها عبر سنة من الزمن لن تكون الطريق سالكة إليها، لا لشيء إلا لأنها لم تعد موجودة.

تلك الحياة صارت جزءا من ماض لا يمكن استعادته.

سيشعر الكثيرون بالتردد وهم يسعون بحذر إلى أن يكونوا طبيعيين. ولكن ما الذي يعنيه أن يكون المرء طبيعيا؟ سؤال حائر ومحير. فما من أحد يمكنه أن يصدق أنه شخص غير طبيعي. لذلك فإن البحث عن تعريف لمَن هو طبيعي لن يكون يسيرا.

كلنا طبيعيون حتى المجانين منا.

يشعر المرء أن الجنون يمكن أن يكون مقبولا في أحيان كثيرة. بل أن بعض البشر يمكن أن يسبب جنونهم كوارث من غير أن يقلل ذلك من اعجاب الكثيرين بهم. وهو ما يجعلنا نحسد المرضى الذين حمتهم المصحات من اظهار عبقرياتهم ليتحولوا من خلالها إلى رموز دينية وقومية.

المجانين الناعمون ينعمون بالبراءة في مصحاتهم فيما المجانين الخشنون يساهمون في صنع تاريخ البشرية الغاطس في جزء كبير منه في الوحشية والعنف والبذاءة والاحتيال والتزوير.

اليوم لن يتمكن أحد حتى لو كان رئيس دولة عظمى أن يعد البشر بغد أفضل مثلما أعتاد السياسيون والشعراء والسحرة والمتنبئون أن يفعلوا في الماضي. لم تمض إلا سنة حتى صار كل شيء ماض. نلتفت فلا نراه. هل كنا حقا هناك؟ ولكن أين ذهب ذلك الـ"هناك"؟ ما بين مكانه وزمانه ستكون فكرة استحضاره متخمة بالسخرية. ذلك أننا لن نجد أنفسنا حين ننظر في مرآته. المرآة فارغة. لم نكن هناك.  

علينا أن نتعلم من خوفنا. قد لا يتكرر ما حدث، غير أن درسه مؤلم وسيظل يضرب في العظام. ولكن ما فقدناه لم يكن بالشيء القليل. كنا نحتضن بعضنا بشوق ولهفة. كنا نتبادل القبل ونهمس في آذان بعضنا كلاما لا نجرؤ على الافصاح به علنا. كنا نجلس قريبين من بعضنا كما لو كان المكان يضيق بنا. وكنا نرى وجودنا من خلال ما تنطق به عيون وأيدي وضحكات أصدقائنا.

كل ذلك لا يمكن أن تضغط على زر لتستعيده.

العالم بات واقعيا بطريقة متحجرة. ما يٌسمى هنا بقناع الوجه أو الكمامة كيف يمكننا أن ننساه وننسى التفكير به باعتباره شيئا ضروريا يجب أن نضمه إلى قائمة مشترياتنا ويجب أن نحمله معنا كمفاتيح البيت أو النظارة الطبية. سنحتفظ بالكميات التي اشتريناها من الكمامات في مكان آمن فربما عاد الفايروس بسلالة جديدة.

ما من جهة في إمكانها أن تؤكد أن العدو قد قُتل وأن خطره قد زال. سيكون المرء محظوظا لو استمع إلى بيان أممي يعلن عن مقتل العدو وانقضاء خطر كل سلالاته. غير أن ذلك لن يحدث. فما من شخص مجنون يدخل على الخط لكي يعلمنا درسا.      

سنخاف لأننا كنا هناك. وسنخاف لأننا لا نملك القدرة على العودة إلى "هناك".

في حقيقة الأمر فإن هناك ما يعيننا على أن نتخلص من الحياة التي كنا نعيشها. مَن قال إنها كانت حياة مثالية؟ فجأة صرنا نتساءل كما لو أننا نحن مَن اتخذ القرار من غير أن نكون مجبرين. سيكون قرار اللاعودة صعبا ولكنه الخيار الوحيد. كانت سنة واحدة كافية لتنسينا كل ما عشناه.

ليست لدينا الرغبة في الحديث عن خسائرنا. يكفي أن يكون مزاجنا متعكرا. ولكن مزاجنا لا يصنع التاريخ. لذلك سيكون علينا أن ننتظر ما الذي ستلقيه السنة القادمة علينا من مفاجآت.   

ذلك الانتظار هو في حد ذاته خبر سعيد. ذلك لأننا لم نعد نضع رؤوسنا على وسائد الماضي لنحلم به. لقد صار علينا أن نؤمن بالمستقبل وحده فلا نلتفت لكي نستعيد حياة فقدنا القدرة على أن نتذكر أننا عشناها بعد سنة واحدة من الوباء. هل علينا أن نشكر الوباء لأنه جردنا من ماض، نحن لسنا في حاجة إليه؟ 

أصعب ما يمكن أن نشعر به ونتمسك به هو أننا لا نزال أحياء. نفرح لأننا لا نزال أحياء. وسنغمض عيوننا على الماضي الذي لن نستعيده. كورونا نقلنا إلى المستقبل ولن يكون في إمكاننا بعده أن نرجع إلى الوراء. لقد تغيرنا وتغير العالم من حولنا.