لا ننكرن "النهار" قبل صياح ديكها

لا تدعوا "النهار" تتألم؛ سارعوا إلى تضميد خسائرها.

أزمة جريدة "النهار" المالية هي أزمة لبنان عصر النهضة الذي اختلسه تدريجا عصر الانحطاط. هي أزمة لبنان الجميل الذي غلب عليه القبح وحجبه التطرف. بلغت هذه التحولات "النهار" مثلما بلغت الدستور والميثاق والسيادة ورغد الحياة وجميع صروح تلك الأزمنة ومناراتها. ما كان ممكنا أن يترنح نظام لبنان الاستقلالي ولا تتأثر"النهار". فهي ابنته وأمه في آن. صنعها وصنعته، كتبته وقرأها، عجنها وخبزته، رواها وأنعشته. وما كان ممكنا أن يبكي الشعب ولا تدمع معه "النهار"، فهي حاملة همومه وقضاياه. هي ذاته ومرآته. ولدا معا وعاشا معا وتوجعا معا... وينتفضان معا.

صفحات "النهار" اختصرت مساحة لبنان وشعب لبنان وطوائف لبنان وتناقضات لبنان... ومؤشر عودة لبنان إلى تألقه هو بقاء ورق "النهار" ينتشر فينا وحبرها يفوح بيننا. إذا ذهب ديك "النهار" يروح آخر ديك في لبنان. بعده تبقى دجاجات لا تبيض وفراخ لا تنمو، ونعيش على إنتاج المزارع، فلا ننكرن "النهار" قبل صياح الديك.

لا أحد ينفي أن الصحافة المكتوبة، اليومية والأسبوعية، تمر في أزمة عالمية (60% ما فوق 18 سنة لا يقرأون الصحف). فضلت الأجيال الجديدة، بل المجتمعات الحديثة، العلاقة المجازية بالخبر على العلاقة الحية، تقدمت حاستا النظر والسمع على حاسة اللمس، كأن الورق شاخ ويضر بالبيئة. علاوة على تغير الحال العالمية والعادات، هناك أسباب خاصة فاقمت أزمة الجرائد في لبنان: سوء الإدارات، سوق الإعلانات، رتابة المواضيع، ضعف صدقية الخبر والتحليل، قلة نقاط التوزيع والبيع، غياب حياة العاصمة واختفاء الشوارع وندرة المارة، قرف من السياسة والسياسيين، انتشار الإعلام الخليجي، وفقدان التمويل الثابت.

رغم ذلك ظل بعض الصحافة المكتوبة يتصرف كأن لا تلفزيون موجودا ولا إنترنت ولا تواصل اجتماعيا، عوض أن يطوق عملية الالتفاف عليه بالتأقلم مع التطور، وانتقاء الحدث والخبر، وتقليص الثرثرة، ووقف الصفحات المليئة بالفراغ، وبابتداع الواقع وتقديمه في شكل شيق. من هنا أن حل أزمة الجرائد لا يكون بالبحث عن ممولين فقط، بل بجذب قراء جدد أيضا. نسبة قراء الصحافة في لبنان لم تتجاوز في السنوات الثلاثين الماضية عتبة العشرة في المئة.

لا يحتمل لبنان اليوم هذا العدد من الصحف. سابقا كان عدد منها صحف أنظمة أجنبية، أما اليوم فغالبية الصحف صارت لبنانية لكنها لا تجد قراء لبنانيين ولا ممولين لبنانيين ولا حتى أجانب. جميل أن نعيد تدريب الناس على استعادة درب الـ"كيوسك" والمكتبات لشراء الجريدة. وعظيم أن نخلق لدى الأغنياء اللبنانيين، القدامى والجدد، ثقافة تمويل الصحافة والاستثمار فيها. الرأسمالية اللبنانية جشعة وبخيلة.

واكبت "النهار" التطور وحاولت نايلة تويني وفريق عملها الحفاظ على ريادة المؤسسة، لكن الأمر مكلف بالنسبة لجريدة مستقلة اعتادت على النوعية والنخبوية وتكافح من أجل البقاء على قيمها وقرائها وعلى عرشها الإعلامي. كانت "النهار" موقف لبنان وديبلوماسيته. كانت صحيفة ومدرسة وجامعة وكتابا ودار نشر وغاليري فنون. كانت حاضنة الثقافة والأناقة. صياح ديكها، لا نور الشمس، كان مؤذن بدء الصباح في لبنان. من دون "النهار" يفقد النظام اللبناني رئيسة سلطته الرابعة. تبتر يد الحرية. كم صحافيا ومحررا وكاتب مقال أنشأت "النهار"؟ كم أديبا وشاعرا ومفكرا أطلقت؟ كم روائيا حاز منها بطاقة الشهرة والعالمية، وهي كم جائزة دولية حصدت؟ كم شهيدا قدمت للكلمة والحرية ولسيادة لبنان؟ جورج سمرجيان، سمير قصير، وجبران. أقلامها كانوا شهادة ورجالها شهداء ونساؤها رائدات.

لا تنظروا إلى المؤسسات الدستورية والشوارع والساحات لتستشرفوا مستقبل لبنان، تطلعوا صوب "النهار". هي الدولة والثورة. إذا كان شباب لبنان وشاباته ثاروا منذ ثلاثة أشهر، فـ"النهار" ثائرة منذ سبع وثمانين سنة. من جبران المؤسس إلى جبران الشهيد مرورا بغسان رائد نهضتها وصولا إلى العزيزة نايلة الصامدة بوجه الصعاب، وأي صعاب! طوال تلك السنوات افترش اللبنانيون صفحات "النهار"، وكانت ساحتهم، وتسلقوا على أعمدتها وكانت منارتهم. لم تميز بين يساري ويميني، ومسيحي ومسلم.

لذلك، كل شيء يسقط في لبنان و"النهار" لا تسقط. متوعكة وتسعف، فقيرة وتكفي، متألمة وتشفي. في ضيقة وتفرج. أي ضمير حي يسمح بسقوط جريدة تحمل هذا الإرث والتراث؟ حري بالقادرين، وهم كثر رغم الأزمة، أن يبادروا إلى مساعدة "النهار" إما بالتبرع، وإما بالاشتراك في مجلس دعم "النهار". لا تمنن "النهار" اللبنانيين بما فعلت دفاعا عن الحرية والكرامة الوطنية. لا تتاجر "النهار" بشهدائها ولا تقايض عليهم. بالمقابل، لا تدعوا "النهار" تسأل؛ كونوا الجواب السباق. لا تدعوا "النهار" تطلب؛ كونوا العطاء. لا تدعوا "النهار" تتألم؛ سارعوا إلى تضميد خسائرها. وكل ما تفعلونه لـ"النهار"، إنما للبنان تفعلونه. المحافظة على"النهار" يكون بمد اليد إليها لا بوضع اليد عليها. المحافظة على "النهار" لا يكون بشرائها بل بمساعدتها، لأن احتفاظ "النهار" بهويتها وحريتها وبتراثها التويني واللبناني وبلونها البيروتي هو بأهمية صدورها. هذه الخصوصية هي قيمة "النهار" وضمانتها الوطنية والعالمية.

لبنان من دون "النهار" هو النهار من دون شمس والليل من دون قمر، هي باريس من دون قوس النصر ونيويورك من دون تمثال الحرية. ولأن جميع هذه ثوابت، فـ"النهار" مستمرة".