لبنان بين المدائن الفينيقية والإمارة

يمر لبنان في مرحلة إعادة تكوين الطوائف من خلال الدولة المخلعة بعدما حاول تكوين الدولة من خلال الطوائف المتنافرة.

رغم الاختلاف الكبير بين اللبنانيين حول تشخيص العطل، لا يختلف مواطنان على كون لبنان سيارة وطنية معطلة في منتصف الطريق بعد تعرضها لسلسلة حوادث بنيوية منذ لحظة خروجها من المصنع. ولم تجد هذه السيارة بعد من ينتشلها ويصلحها ويعيد دوران محركاتها. فالذين عاينوها أخفقوا في المهمة وزادوا عطبها.

هناك لبنانيون يتمسكون بالكيان ولا يحترمون حدوده، ويتمسكون بالوطن ولا يحترمون تاريخه، ويتمسكون بالدولة ولا يحترمون دستورها وقوانينها، ويتمسكون بالصيغة ولا يحترمون المساواة بين مكوناتها، ويتمسكون بالحرية ولا يحترمون الديمقراطية، ويتمسكون بالديمقراطية ولا يحترمون نتائجها والفصل بين سلطاتها. فهل بعد نسأل: لم لا تتألف الحكومة؟

الدولة اللبنانية الحديثة هي دولة من دون تاريخ موحد، والتاريخ اللبناني هو مدائن وإمارات من دون دولة واحدة، والطوائف اللبنانية هي مكونات متفرقة من دون قضية مشتركة. وعدا التجربة الحالية، شبه الدولتين اللتين عرفهما لبنان في تاريخه هما: المدائن الفينيقية وإمارة الجبل. ومع أن السنوات المئة التي مرت على دولة "لبنان الكبير" شهدت أحداثا وإنجازات تاريخية، فهي ليست تاريخا بالمفهوم العلمي، بل مسار سياسي اقترب أحيانا من الحالة الوطنية وفضح تعذر الانتقال من المدائن والإمارات إلى دولة الـ 10452 كلم². لا بل، حول حطاما تجربة رائعة.

للبنان الجبل تاريخه الخاص وكذلك حال لبنان الساحل ولبنان السهل ولبنان الجنوب ولبنان الشمال. الأرض اللبنانية بمساحتها الحالية تملك تاريخا جغرافيا واحدا لكنها لا تملك تاريخا دستوريا واحدا. وحدها الطوائف اللبنانية تتمتع، كل على حدة، بتاريخ واحد ولو سكنت مناطق لبنانية مختلفة. يوجد تاريخ ماروني واحد، وتاريخ سني واحد، وتاريخ شيعي واحد، وتاريخ درزي واحد. لكن لا يوجد لهذه الطوائف مجتمعة تاريخ واحد بل تواريخ متضادة، باستثناء الثنائية الدرزية/المارونية.

وفيما نغرق في رمال تأليف الحكومة ونقترب من إحياء ذكرى إعلان دولة لبنان الكبير، يبرز لبنان نقيض مبرر وجوده. زرعنا أرزة فنبتت نخلة. أنشأنا دولة فأفرخت دويلات. شئنا تصدير الحضارة فاستوردنا الهمجية. توخينا الانخراط في حركة النهضة العالمية فانزلقنا إلى حركة الانحطاط العربي والإقليمي. وصلنا إلى العروبة بعد أن قضت نحبها وإلى الفارسية بعد أن افتقدت سلميتها. طمسنا هوية لبنان وهي من أغنى الهويات من فينيقيا إلى اليوم. من ينكر أصله لا أصل له، ومن يعاند التاريخ يهزم.

الموارنة لا يريدون الاعتراف بخطأ خيار كنيستهم لبنان الكبير، والدروز لا يجازفون في الاعتراف بضميرهم المستتر وهو عز الإمارة، والشيعة يتوهمون القدرة على تحويل المشروع الماروني إلى حسابهم فيحكمون لبنان بالشرعية تارة وبالأمر الواقع تارة أخرى، والسنة ينامون على ريش نعام "الطائف" ويرفعون شعار "لبنان أولا" من دون أن يسقطوا ازدواجية المرجعية. جميع هذه التموضعات خاطئة لأنها ترتكز على مكاسب قصيرة المدى، بينما بناء الأوطان يحتكم إلى قواعد ومعايير أخرى. لقد انتقل عقد الزواج بين اللبنانيين من زواج الرسالة إلى زواج الواقع ليستقر اليوم على زواج الأمر الواقع. نحن في هجر بدون طلاق، وفي مساكنة بدون سكينة.

يمر لبنان في مرحلة إعادة تكوين الطوائف من خلال الدولة المخلعة بعدما حاول تكوين الدولة من خلال الطوائف المتنافرة. ولذلك تسعى القيادات الأساسية إلى حسم زعامتها في طوائفها من أجل التموضع في التسوية المقبلة لا من أجل حصة في الحكومة فقط. فمستقبل لبنان سيبحث قريبا مع الطوائف لا مع الدولة حصرا. وويل للغائبين.

اللبنانيون الذين يحبون بلدهم الأصيل ممزقون بين خيارين: التضرع لخروج لبنان من الغيبوبة بأعجوبة يبتدعها المستقبل بالتشاور مع التاريخ، أو التسليم بالموت الرحيم. وتزداد المعاناة لما يرى اللبنانيون صعوبة إيجاد حل وطني للحالة اللاوطنية، وحل وحدوي قريب للواقع التقسيمي. وتصبح المعاناة وجعا حين يدرك اللبنانيون أن الحل الجذري - الموجود نظريا - هو إعدام حتمي لوطن ورد ذكره في أعظم الكتب الروحية والإنسانية، علما أن الاعدام قد نفذ على مراحل.

إن اللبنانيين، بمنأى عن العواطف الصادقة والكاذبة، مدعوون إلى ابتداع حل جريء لأزمتهم العميقة مهما كان هذا الحل صعبا وجراحيا. فلا الرجوع إلى لبنان الأصيل متوفر، ولا البقاء في لبنان المصطنع يطاق. ما جرى تحت شعار التغيير في "الطائف" هو تصحيح خطأ ظرفي (حكم سيئ) بخطأ أساسي (دولة سيئة) فأنتج حكما أسوأ. لكن المشكلة الجوهرية ليست في الدستور أو الطائف أو الميثاق تحديدا، بل في اللبنانيين، فنحن تزوجنا من لبنان بدون أن نترك عشيقاتنا حتى بعد وفاتهن، فتعاملنا مع الدساتير بازدراء ريثما يفرض كل طرف منا دولته على الآخرين.

هناك فارق بين عدم وجود حل لمشاكل لبنان وبين عدم وجود إرادة في صناعة حل حقيقي. عشنا على مقولة أن لبنان هو بلد التسويات لا الحلول حتى صارت التسويات مصدر مشاكل وأزمات وحروب. إن التسويات الصحيحة هي التي تصب في إطار المشروع الوطني، فيما تسوياتنا المتتالية أبعدتنا عن المشروع الوطني، وجاءت على حساب لبنان الموحد ولبنان المستقل ولبنان التعايش الحضاري.

لذا، وجب الانتقال من معادلة التسويات الكبيرة إلى معادلة الحل الكبير. لكن، أي زعيم يجرؤ أن يبوح بالحل الكبير؟ إن الشجرة التي تذبل أوراقها وتعتل أغصانها تنقى وتشذب لتستعيد نموها في الفصول التالية. وحري بلبنان، والأرزة رمزه، أن يتشبه بالشجرة لينقذ الجذع ولو على حساب الأغصان المريضة والأوراق الصفراء. فلنضع أوراقنا على الطاولة ونتصارح برقي، فمن خجل بقي عاقرا.