لبنان في طريقه إلى بداية جديدة
بعد أن تخلى حزب الله عن الجنوب اللبناني مضطرا، هل سيتمكن من الحفاظ على هيمنته على الحياة السياسية في لبنان؟ ولكن المستقبل الذي خططت له إسرائيل وفرضته ثمنا لحلها الذي يحفظ لها أمنها لا يقتصر على الجغرافيا وحدها، بل يتجاوز ذلك إلى ما يمكن أن يحصل عليه الحزب من فرص لترميم وجوده الذي صار عبارة عن ركام من الأنقاض التي لا يؤدي تجميعها ثانية إلى قيام التنظيم مرة أخرى.
كل الكتلة البشرية التي عبرت بحسرة عن شعورها بالانتصار لأنها لا تزال على قيد الحياة بعد أن رأت اختفاء قيادييها واحدا تلو آخر أو على شكل جماعات لا تصلح سوى أن تكون قاعدة لتنظيم غامض لن تتبلور هيئته في المستقبل القريب. لقد اختفى الحزب مع اختفاء قيادييه وتقطعت الخيوط مع إيران وهي الأنابيب التي يصل من خلالها الهواء الذي ينعش وجود الحزب. وإذا كانت إيران ستحاول استحداث شبكة اتصال وسيطرة جديدة فإن ذلك سيستغرق زمنا طويلا وقد لا يرقى إلى مستوى ما كان عليه الحزب يوم كان قادرا على تهديد دول المنطقة كلها وليس إسرائيل وحدها.
كان فناء الحزب يكمن في قوته التي كان على إيران أن لا تصل بها إلى مرحلة الانفجار. في حقيقة الأمر فإن الحزب انتحر يوم قرر أن في إمكانه أن يروض الجنون الإسرائيلي في غزة والذي كان محل تفهم عالمي. حتى الدول المتضامنة مع الحق الفلسطيني كروسيا والصين كانت في موقف محرج بعد مغامرة حماس يوم السابع من أكتوبر 2023. كان هناك ضحايا مدنيون ليس هناك تفسير لقتلهم أو اختطفاهم. لم يتعامل الحزب مع تلك الحقيقة بحذر بسبب غروره ولأن المبرمج الأعمى في طهران لم ير خطرا عظيما في عناد الحزب الذي تمثل في رغبته في الإمساك بقرني الثور الإسرائيلي وترويضه.
كانت تلك واحدة من أكثر الأفكار رثاثة وفسادا. أما حين قررت إسرائيل العمل على إنهاء خطر حزب الله على شمالها فإنها لم تفكر بطريقة مجزأة، بل كانت لديها خطة عمل للقضاء على الحزب وليس على وجوده العسكري في الجنوب فقط. لذلك فإن فكرة إحياء حزب الله هي بالنسبة لإسرائيل خط أحمر بغض النظر عما يتضمنه إتفاق وقف إطلاق النار الذي انجزت إسرائيل من خلاله أهدافها العسكرية. وكما أرى فإن الدولة اللبنانية إذا أرادت إستعادة سيادتها على أراضيها ستعمل على إنهاء الفوضى الأمنية التي يمكن أن يحدثها حملة السلاح من بقايا الحزب. ومثلما ذهب الجيش اللبناني إلى الجنوب ليعلن سيطرته عليه فإن من واجبه أن يسعى إلى تثبيت الأمن والاستقرار في بيروت والبقاع. لقد صار نزع سلاح حزب الله هو السبيل الوحيد لاستقرار لبنان.
فيما مضى كان هناك خوف لبناني مبرر من حزب الله. كنت أرى ذلك الخوف في أعين اللبنانيين، سنة كانوا أو مسيحيين. اليوم يُفترض أن ذلك الخوف قد انتهى. لقد دُفن مع قيادة الحزب التي لم ترحم أحداً وكانت تراهن على ولادة لبنان إيراني يشكك وجوده بكل الحقائق التاريخية التي صنعت منه بلدا عظيما في أعين أبنائه بالرغم من صغر مساحته. كان لبنان دائما أكبر من مساحته بسبب خيال أبنائه. صار مع حزب الله أصغر من فوهة بندقية. تلك حقيقة تعاملت معها إسرائيل بدقة وخصوصية. فهل ينتهي لبنان مع نهابة حزب الله أم أنه وقد تعب وهلك سيبدأ سيرة حياة جديدة يقول فيها "وداعا للميليشيات"؟
لبنان يعيش اليوم أعظم اختباراته وأصعبها. أما أن يكون دولة حديثة ذات سيادة على أراضيها ومسؤولة عن مواطنيها. تلك الدولة التي أقامتها فرنسا على مبادئ الآخاء والمساواة والحرية واجتهد أبناؤها في الإعلاء من شأنها وشأنهم زمنا طويلا وأما أنه يخون هذه الفرصة التاريخية التي قدم من أجلها الكثير من التضحيات ويظل دولة خاضعة لسلاح الميليشيات الذي ضاع في طرق متاهته ولم يعد إلا ذكرى لزمن لفظه التاريخ.
لا يمكن لولادة لبنان الجديد إلا أن تُحدث تغييرا كبيرا في بنية النظام الحاكم الذي لم يعد من المقبول أن تستمر الطبقة السياسية الفاسدة في إدارته كما لو أنه شأنها الخاص. لقد آن للشعب اللبناني أن يضع حيويته الخلاقة على المحك من أجل أن يؤسس نظام سياسي جديد يكون مناسبا لتضحياته.