لبنان: نجاح العهد ليس من المستحيلات

كان زعيم التيار الوطني الحر يردد "اعطونا الحكم وخذوا ما يدهش العالم". لما دارت الأيام وأصبح الزعيم رئيسا أصبحت الدهشة خيبة.

نعرف أن الحكم في لبنان ليس نزهة على "شط بحر الهوى"، فهو واقع بين النزوات الداخلية والصراعات الإقليمية. ونعرف أن جزءا من أزماتنا ذو بعد خارجي كالأفق يبدأ ولا ينتهي، ويصعب بالتالي فرض الحلول الجذرية على صعيدي السيادة والاستقلال. ونعرف أن كل فريق يمنن رئيس الجمهورية بأن لولاه لما انتخب ولما عاد إلى "بيت الشعب" في قصر بعبدا، ويصر تاليا أن يكون العهد عهده لا عهد الجنرال. ونعرف صعوبة أن ينجح حكم في دولة متناثرة.

لكننا لا نحاسب الحكم على ما هو عاجز عنه وفشل فيه، بل على ما هو قادر عليه وأخفق فيه. لا نحاسبه على ما لم يفعله بل على ما فعله واعتبره إنجازات. لا نحاسبه على عدم تحييد لبنان، بل على توريط نفسه في المحاور الداخلية والخارجية. لا نحاسبه على عدم محاسبة "جمهورية الفساد" منذ الطائف، بل على استمرار الفساد وتفاقمه. لا نحاسبه على عدم نزع سلاح حزب الله - فاطلب المستطاع لكي تطاع - بل على زرع ثقافة السلاح غير الشرعي والدفاع عنها في المحافل العربية والدولية. لا نحاسبه على عدم صنع العجائب، بل على الغرائب المذهلة التي يصنعها أركانه يوميا. لا نحاسبه على عدم مضاعفة أصدقاء لبنان في العالم، بل على إغضاب أصدقائه التاريخيين. لا نحاسبه على عدم وضع دستور جديد - فلنحافظ على الموجود أولا - بل على عدم تأليف حكومة أليفة تجمع النفايات على مختلف أنواعها ولا تطلق سراحها.

كان زعيم التيار الوطني الحر يردد ما معناه: "اعطونا الحكم وخذوا ما يدهش العالم"، ولما دارت الأيام وأصبح الزعيم رئيسا أصبحت الدهشة خيبة. الخيبة في اللغة هي عدم تحقق الأمل، وفي الفلسفة هي اصطدام الإرادة بالواقع، وفي السياسة هي الصدمة بفشل القادة الواعدين، وفي الحكم هي سيطرة الهواة على المحترفين. ولأن "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، تأتي الخيبة أيضا على قدر أهل الأمل. فالرئيس عون، المعروف بـ"الرئيس القوي"، يعاني اليوم من تبعات هذه الصفة اللصيقة بشخصه وبتاريخه وبشعبيته، إذ يطالبه الناس بإنجازات على مستوى آمالهم به.

غير أن الرئيس عون عاجز عن الحكم لأن صراع القوى يعطل عهده، ولأنه لا يملك صلاحيات دستورية تنفيذية، ولا فريقا استراتيجيا كفيا، ولا تموضعا سياسيا يجعل كلمته مسموعة، ولا محيطا يسهل علاقاته مع الأطراف اللبنانيين، ولا ديبلوماسية تنسج له صداقات عربية ودولية. إنه صراع مرير بين العهد والوعد، بين التصميم والتعطيل. وما يزيد معاناة الرئيس ميشال عون، أن شخصيته شخصية رئيس ما قبل الطائف، فيما صلاحياته الحالية صلاحيات رئيس ذي شخصية أخرى.

لكن الغريب أن أركان العهد يتصرفون كأنهم لم يصلوا إلى الحكم بعد، أو كأنهم في المعارضة: يعطون انطباعا - وهذا تكتيك لاستدرار العطف - أنهم مضطهدون تارة ومطوقون تارة أخرى، وأسرى طورا ومغبونون طورا آخر، بينما هم على مدار الساعة حاكمون.

واللافت أيضا أن العهد يعتبر كل معارضة له حربا كونية عليه، فيما هي حق طبيعي للسياسيين والشعب. فواجب القوى السياسية المعارضة نهج العهد وخياراته - بغض النظر عن صحتها أو خطئها - أن تحاول، بالوسائل الديمقراطية، منعه دون مواصلة نهجه الداخلي وانحيازه الإقليمي. وما دام العهد - حكما وحكومة ومجلسا نيابيا - يتناغم مع المحور السوري - الإيراني، عليه أن ينتظر تدخلا سعوديا وخليجيا وأميركيا وأوروبيا أيضا، فهذه الدول لا تتدخل في شؤون لبنانية داخلية حصرا، بقدر ما تواجه تدخل لبنان في شؤونها الإقليمية والدولية (مباشرة أو من خلال حزب الله). لذا إن تعطيل المعارضة يبدأ بالإصغاء إلى الآخرين لبنانيا وبالحياد عن الجميع خارجيا.

قد تكون سياسة العهد هي الصحيحة. لكن، هل وضعها بعد التفاهم مع المكونات اللبنانية وهي معنية بانعكاساتها؟ وهل هذه السياسة تعبر عن البيئة التي ينتمي إليها الرئيس وباسمها أتى إلى الحكم رئيسا ذا صفة تمثيلية؟ وهل تشاور بشأنها مع أصدقاء لبنان التاريخيين في المنطقة والعالم؟ وهل قيم مردودها على سيادة لبنان واقتصاده ونقده ونموه وإنمائه؟

قد لا يكون اللبنانيون بعيدين من خيارات رئيس الجمهورية الاستراتيجية، خصوصا حين يقرأون الرئيس دونالد ترامب يقول لوكالة رويترز في 20 آب الماضي: "ما كان يجب أن تذهب أميركا إلى الشرق الأوسط، فهذا أكبر خطأ تاريخي ارتكبته بلادي". وحين يرون الرئيس ايمانويل ماكرون يتحفظ عن عودة النازحين إلى سوريا قبل التسوية السياسية. وحين يسمعون ألمانيا والمفوضية الأوروبية والأمم المتحدة تشجع جميعها على دمج النازحين في المجتمع اللبناني.

مسؤولية العهد أن يشرح للبنانيين الأسباب الموجبة لسياسته وخياراته. هناك رؤساء ساروا في خيارات غير مألوفة وتمكنوا من تمريرها لدى الرأي العام. لكن المشكلة أن أركان العهد الحالي يؤلبون الناس عليهم كلما تكلموا، ويجفلونهم كلما حاولوا أن يقنعوهم. إن العهد يعاني من سوء سياسته الإعلامية (رفيق شلالا بريء منها) لا من سوء سياسته فقط. في العصر الحديث ما عادت هناك سياسة فاشلة وأخرى ناجحة بقدر ما هناك إعلام ناجح وآخر فاشل.