لغة الحلم على ضفاف الحنين

إنعام كمونة تسعى حثيثا إلى خلق الإغراب في لغتها وعدم اللجوء إلى اللغة السطحية والمباشرة والوضوح الشديد.
كل مقطع يمتلك سحرا لغويا وقوة وطاقة نغمية
الشعرية والزخم الشعوري وغرابة اللغة وانفلاتها من واقعيتها وهروبها إلى منطقة الحلم

يقول هيجل: الشعر هو الفن المطلق للعقل، الذي أصبح حرّاً في طبيعته، والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية، ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للأفكار والمشاعر.
ومما لاشك فيه أن الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج إذا لم يستطع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى استثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الآخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه، وتسخير الخيال الخصب في إنتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه، وقد تموت أيضا إذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لإنضاجها، وقد تنتهي حينما لم تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة.
ونتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير إلى مستوى الإبداع وكميّة الشعرية فيها، ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
وبالعودة إلى نصّ الشاعرة إنعام كمونة "على ضفاف الحنين ينثالُ حلماً..!"، نجد سعيها الحثيث إلى خلق الإغراب في لغتها وعدم اللجوء إلى اللغة السطحية والمباشرة والوضوح الشديد، ونجد هذه التجريدية العالية والانزياحات المبهرة تحتل المساحة الكلية لنسيجها الشعري في هذا النصّ، بدءا من العنوان وانتهاء بآخر مفردة فيه. فكل مقطع من هذا النصّ يمتلك من السحر اللغوي والقوة والطاقة النغمية التي تزيد من التأثير لدى المتلقي والمحاولة لتخليص الواقع من واقعيته والهروب نحو الحلم، فمثلا نقرأ هذا المقطع: "عصية شفااااه الشكر.. بعرين الهمس..؟! لتحتضن شهب التجمل من أعراف قلبك الظمآن عشقا"، لنتعرف على مقدار الشعرية والزخم الشعوري وغرابة اللغة وانفلاتها من واقعيتها وهروبها إلى منطقة الحلم العذب والشفيف، وهذا يُشعرنا بالقدرة الذهنية لدى الشاعرة من أجل خلق حالة الدهشة أو الصدمة لدى المتلقي وإحكام سيطرتها على ذهنية المتلقي نتيجة لهذا الاضطراب اللغوي. 
ونعود لنقرأ أيضا هذا المقطع: "فمنذ وقع صدى خطوة العنااااق ورشفة صهيل ارتجافة برد تعربـد السفر بحيـاء روحي شوقا حريري الهوى يباغت قَسَمَ صمتك الملتاع جهرا من مسقط النبض لقمة سواقي الروح حلما ينازع فطنة زاد التردد".
نجد هنا مقدرة هذا الحلم على تطويع اللغة وخلق مزيج متداخل من الصور كـ / الصورة السمعية = فمنذ وقع صدى خطوة العنااااق، أو الصورة الذوقية = رشفة صهيل ارتجافة برد، أو الصورة اللمسية = يباغت قَسَمَ صمتك الملتاع جهرا من مسقط النبض، أو الصورة الحسّية = بحيـاء روحي شوقا حريري الهوى.

السردية التعبيرية
تحلّق الذات الشاعرة في عوالم بعيدة 

فنحن نجد في هذا المقطع "تراسل الحواس" حيث تشترك أكثر من حاسة فيه، وهذا يجعلنا نشعر بتغريب المفاهيم والمعاني، وبالإيحاء المبثوث فيه في محاولة إلى استثارة حواس المتلقي ومشاركته الشاعرة في بوحها العميق هذا. 
ونقرأ أيضا: "بتلاوة زبر الحواس شفاعة فطام التجرد من غرة الخيال لهوة محراب حبك تسري قوافل جوى بمواكب الزينة، تبهج كرنفالات فلنتاين بأريج طيفك".
كيف تنصهر الحواس والمشاعر والأحاسيس لتخلق لنا صورا استعارية متجددة، وتداعي مستمر في هذه الحواس المختلفة، مما أدى إلى خلق علاقات جديدة بين مفردات اللغة لم نعهدها من قبل، وما ذلك إلا لمحاولة إثراء اللغة وتلوين النسيج الشعري حتى تتعزز استثارة واستجابة المتلقي فيكون تأثيرها ممتع جدا. 
ونقرأ هنا في هذا المقطع الطويل: "وبحذر إطراقة عجل ونذور سكينة صبر تواري شروق مطر الانتظار ببراعم الغزل، فقبل موسم القبلة الأولى وجنون أجنحة الوقت تحتسيك ومضات برق اللهفة الغانية سرا، محلـقة بطقوس فيرووووزية البذخ".
كيف تحلّق الذات الشاعرة في عوالم بعيدة من الخيال الجامج والتطرف الشديد في انزياح اللغة الذي ينمّ عن تفوق ذهني خلاّق يعلن انتصاره على واقعية ورتابة الحياة وتفكيكها وإعادة صياغتها بطريقة إبداعية، حتى نجد أنفسنا نعيش في عالم باذخ من الأحلام البعيدة عن هذا الواقع والقريبة من الروح. 
ونختتم النصّ بهذه اللغة المتوهّجة في ظلام الواقع: "كلما تضئ عيون الوسن بانهار الحنين تردد غزلان وصاياك طائل التمني من رقاد ظله، ونعاس ريقي يفضفض ثمالة فجر ألف ليلة وليلة: ضُمَني عشتار صلاة لقِبلةِ أحلامك لأوضب وليمة لقاء وانفض كثبان ملح العمر بهديل كفي، فهل لي سبيل لقضمة حُلم.. مذاقها سكر؟".
هذه اللغة الجديدة تكمن قيمتها بقوة الانفعال لدى المتلقي والمعبّرة عن محنة الإنسان وصراعه في هذا الوجود، فنجد أن الشاعرة استطاعت أن تتوغل في عوالم بعيدة من الخيال الخصب والممتع في التعبير عمّا يجيش في نفسها، ولعل المتلقي المنتج والواعي سيتلمس بوضوح جمالية صوت المرأة الشاعرة، في هذا النصّ السردي التعبيري، وما كان يتحقق هذا لولا الحرية التي منحتها السردية التعبيرية والانفلات من القوالب الجاهزة والقيود التي تفرضها الأجناس الشعرية الأخرى على الشاعر، هكذا نتمتع بنصّ سردي تعبيري نموذجي مدهش آخر تمنحنا إياه هذه السردية التعبيرية.