لماذا الانسحاب الاميركي ليس كافيا

حصر المشكلة بالملفّ النووي الايراني كان بمثابة تحايل على المنطق والحقيقة. المشكلة في السلوك الايراني.

ليس كافيا انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني. كان هذا الملفّ منذ البداية حجة استخدمها النظام الايراني من اجل ابتزاز المجتمع الدولي ودول المنطقة في آن. كانت إسرائيل هي المستفيد الاوّل من البرنامج النووي الايراني. استخدمته بدورها من اجل ابتزاز الولايات المتحدة والحصول منها على ما تريده، خصوصا شأن كلّ ما له علاقة بالمساعدات العسكرية والتكنولوجيا المتطوّرة. نجحت إسرائيل في ذلك نجاحا كبيرا. قطفت ثمار التوصّل الى الاتفاق وثمار الانسحاب الاميركي منه في الوقت ذاته.

ليس الانسحاب الاميركي من الاتفاق كافيا في غياب استراتيجية أميركية واضحة في الشرق الاوسط والخليج وصولا الى شمال افريقيا. هذا ما كشفته بوضوح الكلمة التي القاها الرئيس دونالد ترامب والتي اعلن فيها خروج اميركا من الاتفاق مع ايران.

تضمّنت الكلمة كلّ العناصر التي يمكن ان تؤسّس لاستراتيجية أميركية متكاملة في الاقليم وصولا الى شمال افريقيا، خصوصا بعدما تبيّن انّ هناك حتّى نشاطا إيرانيا متزايدا في شمال افريقيا واستغلال ايراني لقضية بين المغرب والجزائر. كان افضل تعبير عن ذلك اضطرار المملكة المغربية الى قطع العلاقات مع ايران بعد كشفها تدريب "حزب الله" لعناصر من حركة "بوليساريو" الانفصالية التي ليست سوى أداة جزائرية تستخدم في حرب الاستنزاف التي تشنّها الجزائر على المغرب منذ العام 1975 مستخدمة قضية مفتعلة اسمها قضية الصحراء، وهي أرض مغربية. لا يختلف عاقلان يعرفان شيئا، ولو قليلا، عن التاريخ والجغرافيا على ذلك.

لم يترك الرئيس الاميركي، على غرار ما فعل في خطاب سابق يوم الثالث عشر من تشرين الاوّل الماضي نقطة مرتبطة بالنشاط الايراني في المنطقة الّا وذكرها. كان واضحا انّه يتحدّث عن تنفيذ مشروع توسّعي في المنطقة. من عناصر هذا المشروع اطلاق صواريخ باليستية من الأراضي اليمنية في اتجاه المملكة العربية السعودية. ليس تفصيلا الموقف الذي اتّخذه الرئيس الاميركي من النشاط الايراني في اليمن.

كان من بين اهمّ ما قاله ترامب انّه بات يعرف "انّ النظام الايراني يتصدّر الدول الراعية للارهاب في العالم". أضاف: "انّه يصدّر صواريخ خطرة ويشعل الصراعات في الشرق الاوسط ويدعم التنظيمات والميليشيات الإرهابية مثل حزب الله وحماس وطالبان والقاعدة. وعلى مدى السنوات الماضية، قام وكلاء ايران بتفجير السفارات الاميركية والقواعد العسكرية الاميركية، فقتلوا مئات الجنود الاميركيين واختطفوا وسجنوا وعذّبوا مواطنين اميركيين".

خلاصة الامر انّ إدارة ترامب، على خلاف إدارة باراك أوباما، تعرف انّ المشكلة مع ايران ليست محصورة بالملف النووي. حصر المشكلة بالملفّ النووي الايراني كان بمثابة تحايل على المنطق والحقيقة ولا شيء غير ذلك. المشكلة في السلوك الايراني في المنطقة وفي مشروع يعتمد اوّلا وأخيرا على اثارة الغرائز المذهبية. لو لم يكن الامر كذلك كيف يمكن تفسير استفزازات "حزب الله" لاهل بيروت السنّة خصوصا في اليوم الذي تلا الانتخابات؟ لم يكن الحزب، الذي ليس سوى لواء في "الحرس الثوري" الايراني يريد شيئا آخر غير ابلاغ اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، ان بلدهم صار تحت الوصاية الايرانية ولا شيء غير ذلك. لا يريد "حزب الله" حصر انتصاره بالانتخابات، بل يسعى الى تأكيد انّه انتصر على لبنان واللبنانيين وانّه سيعاملهم بعد الآن مثلما عامل اهل الجنوب والبقاع في يوم الانتخابات وفي الايّام التي سبقته.

أظهرت إدارة ترامب انّها جدْية في التعاطي مع ايران. هناك متابعة دقيقة لهذا الموضوع. بعد خطاب تشرين الاوّل – أكتوبر الماضي، جرت عملية إعادة هيكلة للإدارة. شملت العملية حلول مايك بومبيو في وزارة الخارجية مكان ركس تيلرسون وجون بولتون مكان هربرت مكماستر كمستشار لشؤون الامن القومي. ترافق ذلك مع عملية استيعاب لكوريا الشمالية التي اختارت التخلي في مرحلة معيّنة عن ترسانتها النووية وان تقيم كدولة طبيعية وسط محيط فيه دول تتمتع كلّ منها باقتصاد عملاق هي الصين واليابان وكوريا الجنوبية. لا تكمن اهمية خطوة ترامب تجاه كوريا الشمالية في انّه استطاع استيعاب خطرها فحسب، بل في ان كوريا الشمالية تصدر أيضا تكنولوجيا الصواريخ لإيران وغير ايران، ولأنظمة مارقة مثل النظام السوري.

يظل كلّ كلام يصدر عن ترامب كلاما في غياب الخطة الاستراتيجية الشاملة التي تجعل ايران تعيد حساباتها. لا يمكن لمثل هذه الخطة تجاهل انّ ثمّة حاجة الى افهام ايران، بالتي هي احسن، انّ لا مكان لها في سوريا. هذا يعني في طبيعة الحال ان الوجود العسكري الاميركي في سوريا ضرورة. انّه ضرورة للسوريين اوّلا الذين يعانون الامرّين من الاستعمار الايراني ومن اوهام الكرملين التي تقوم على ان روسيا قوّة عظمى وان في استطاعتها إقامة منطقة نفوذ تابعة لها انطلاقا من سوريا ومن انتصار على الشعب السوري.

عندما تكون هناك استراتيجية أميركية متكاملة، لا تعود لدى أوروبا حجج تتذرّع بها للمحافظة على الاتفاق في شأن الاتفاق مع ايران. هناك منطق أوروبي سليم يقوم على فكرة توسيع الاتفاق المتعلّق بالملفّ النووي الايراني كي يشمل الصواريخ الباليستية وسلوك ايران في المنطقة، أي ميليشياتها المذهبية. مثل هذا المنطق الاوروبي لا تعود له قيمة متى تتوافر خطة تقضي بوضع حدّ للطموحات الايرانية بدءا بمنع التمدد في اتجاه العراق وسوريا ولبنان، أي ربط طهران ببيروت مرورا ببغداد ودمشق.

لا يكون قطع الطريق على ايران الّا من خلال سوريا حيث يلعب النظام الايراني ورقة مستقبله. سيخرج النظام الايراني من طهران متى خرج من سوريا. سيخرج مثلما خرج النظام السوري من دمشق يوم خرج من لبنان. صار وجود النظام الاسدي في سوريا يعتمد اوّلا وأخيرا على الوجودين الايراني والروسي، أي على نظامين يتصرّفان بطريقة غير طبيعية خارج حدودهما غير آخذين في الاعتبار انّ اقتصادهما لا يتحمّل ذلك.

أخيرا، عندما تكون هناك استراتيجية أميركية متكاملة، لا يعود الرئيس الايراني حسن روحاني، وهو شخص يمتلك حدّا ادنى من الذكاء، يرد على ترامب بلغة خشبية لا تريد الاعتراف بان شيئا ما تغيّر في واشنطن. ما الفائدة من عودة ايران الى تخصيب اليورانيوم والى الرهان على وجود خلافات في وجهات النظر بين اميركا وأوروبا؟ لا فائدة تذكر، اذا أعلنت اميركا صراحة ما الذي تريده وترجمت الكلام الجميل الى أفعال على ارض الواقع لا اكثر ولا اقلّ...

البداية تكون من سوريا بعد الخطأ الكبير الذي ارتكب في العام 2003 عندما سُلّم العراق على صحن من فضّة الى ايران!