لماذا العودة إلى الرواقية؟

أصحاب المدرسة الرواقية يغلبهم الميل نحو التقشف، فيما أصبحت الأرقام بوظيفتها المادية لغةً للعالم الحديث.
الأسئلة الوجودية ركن أساسي في المنظومة الفلسفية
مسيرة المعاناة تبدأُ عندما يغيبُ الحاضر لدى الإنسان، ولا يكون نظره إلا على الماضي أو المستقبل

يتزاحمُ تاريخ الفلسفة بالمذاهب والإتجاهات المتعددة، وينطبعُ كل مذهب بخصائص عصرهِ ويمثلُ ما وصلَ إليه التطورُ الفكري في مرحلةُ تاريخية معينة، إذاً أن الفكر محايثُ للواقع، صحيح أنَّ الفكرة تبدو أكثر تطوراً من المرحلة التي حملت نواتها الأولى، لكن هذا لا يعني إنفصالها العضوي من الوضع الراهن، فإنَّ الفلسفة في كل الأحوال لا تنهضُ إلا من الواقع، والسؤال الذي يفرضُ نفسه إذا كان كل مذهب فلسفي إنعكاساً للوعي  بمتطلبات حلقة تأريخية وإرهاصاً بشكل المرحلة اللاحقة، فماذا تفيدُ العودةُ إلى المذاهبُ الفلسفية وهي وليدةُ ماضِ سحيق؟ 
بعبارة أوضح ماذا تضيفُ الفلسفة الرواقية إلى الإنسان المعاصر؟ ونحن نعرفُ بأنَّ أصحاب هذه المدرسة يغلبهم الميل نحو التقشف، فيما أصبحت الأرقام بوظيفتها المادية لغةً للعالم الحديث.
بدايةً لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الأسئلة الوجودية ركن أساسي في المنظومة الفلسفية لذا لا ينسحبُ عليها ما قد ينطبقُ على النظريات العلمية التي ربما تفقدُ قيمتها بمجرد الإعلان عن الفتوحات الجديدة، بينما طيف الفلاسفة يلوحُ في الأفق كلما حلت الأزمة بالمجتمعات الإنسانية لذا يرى لوك فيرى بأنَّ تاريخ الفلسفة يشبه تاريخ الفن أكثر مما يشبه تاريخ العلوم، ففي المجال الإستيقي يمكن أن نحبَّ رؤى مختلفة تماماً كما هو الأمر بشأن الفلسفة، لا تعوضُ التيارات المعاصرة  المدارس الكلاسيكية.

philosophy
إبيكتيتوس عاش عبدا قبل انعتاقه 

فضيلة الحرية
ما يزيدُ من أهمية الفلسفة الرواقية في هذا التوقيت هو إنصراف أقطابها إلى الشؤون الحياتية ومسعاهم الرامي لتحسين المستوى السلوكي لدى الفرد لذلك تصنفُ الرواقية ضمن المدارس الأخلاقية. إذاً فمن الطبيعي بعد الخيبات المتراكمة جراء الإنسياق وراء الوعود الخلاصية والترويج للأيدولوجيات المشحونة بالأوهام المُغلفة بالغائية أن يتمَ البحثُ عن خيار آخر ينفعُ لإدراك التحديات الحياتية، وتفادي الوقوع في مطب الإنفعالات السلبية. وهذا ما ينشدهُ المرءُ من العودة إلى العقلية الرواقية.
تبدأُ مسيرة المعاناة برأي الرواقيين عندما يغيبُ الحاضر لدى الإنسان، ولا يكون نظره إلا على الماضي أو المستقبل. يقولُ سينيكا "فإننا من فرط العيش في الماضي والمستقبل تعوزنا الحياة". إذاً فإنَّ الخطوة الأولى نحو طريق التعافي هي الإقامة في الحاضر. كما أنَّ الأولوية  للإنسان يجبُ أن تكونَ لتفريغ قراراته مما يثير الأهواء الحزينة إذا أراد أنْ لا يخسر حريته. وذلك يتطلبُ وجود الحكمة لأنَّ الحرية وفقاً لزينون - وهو مؤسس المدرسة الرواقية - هي امتياز حصري للحكماء. والمرادُ من الإشتغال الفلسفي إنطلاقاً من المبدأ الرواقي ليس إلا إكتساباً للطمأنينة.
ويرى الباحث الإنكليزي أنطوني أرثر لونغ أنَّ المهارة التي ركزَ عليها الرواقيون هي فن الحياة لافتاً في دراسته عن كتاب "المختصر" لـ إيبكتيتوس إلى إمكانية فهم الفن بإعتباره مرادفاً لمعرفة طريقة العيش بانسجام مع الطبيعة الإنسانية ومع البيئة الإجتماعية والمادية. ولا تتحقُ الحياة الخيرة برأي إبيكتيتوس إلا بالحفاظ على إرادة الفرد في إنسجام مع الطبيعة. 
ومن المعلوم أنَّ مصطلح الطبيعة يغطي في برنامج الفيلسوف الرواقي ثلاثة مجالات؛ أولاً: هيكل ومحتوى العالم المادي. ثانياً: الطبيعة الإنسانية بما فيها الملكات العقلية والكفاءات والإمكانات. ثالثاً: القيم التي قد تتفقُ أو تفشل مع التفوق الإنساني. 
ما يقعُ في الطبيعة ليس سيئاً، ولا يصحُ الإفتراض بأنهُ بالإمكان أن يحدث بطريقة مختلفة. هنا يتمثلُ ذكاء البشر في فهم الطبيعة الخارجية أو الكوسموس والتناغم معها في الأفعال والتصرفات. وهذا يذكرنا بحكمة نيتشوية "يجبُ للإنسان أن يكون جاراً صالحاً للأشياء الأقرب منه". وفي الحال إذا كان الإختيار مناقضاً لهذا المسلك، فلن تكون نتيجته على الأغلب سوى الإحباط. 
وما يمكنُ الإنسان من الإدارة بدفة أموره هو العقل الذي يتضمنُ "المحاكمة والدافع والإختيار" وهذا يندرجُ في صنف الأشياء العائدة إلينا، وبالتالي تتراخى سلطة الأشياء الخارجية على الرغبات والمخاوف. 
إلى جانب ما سبق ذكره فإنَّ الفلسفة الرواقية تهدفُ إلى التحكم بالإنطباعات والتوهمات التي تغزو الرأس مثل القلق على الصحة والحصر النفسي تجاه حالة العالم إذ ما هو ضروري القيام به مع هذه التجارب هو التآلف النفسي معها وإدارتها وتفسير العوامل التي تقفُ خلفها. والأهمُ في هذا الإطار هو تحديد إيبكتيتوس لمفهوم الخير والشر حسب المنفعة أو الضرر اللذين نكسبهما خلال قراراتنا أو أفعالنا، ما يعني أنَّ الأشياء الخارجية أقرب إلى طبيعة محايدة كما أنَّ تقيد السعادة بالظروف يعني التخلي عن الإستقلال والإتزان العاطفي حسب قراءة أنطوني آرثر لونغ للمذهب الرواقي.

الممارسة
لا يمكنُ إختزال التفلسف في إقتناء المعرفة، بل من الضروري تحويل المفاهيم الفلسفية إلى مجال الممارسة على المستوى المعيشي، لا يجدي ترددُ المفردات المقتبسة من معجم الفلسفة نفعاً دون أن يكونَ ذلك دافعاً لفهم متعمق وتحسين الرؤية للمعطيات والظواهر  التي تحيط بنا. يقولُ إيبكتيتوس عن النشاط الفلسفي بأنهُ إستعداد لمواجهة الأشياء التي تفرض نفسها علينا، وهذا النسق من التفكير هو ما يحتاجه العالم اليوم، وتستشفُ  ظله في وصف نسيم طالب لتاريخ البشرية "إنَّ تاريخنا سلسلة من الأحداث الكبيرة التي لم يتوقعها أي شخص". و ما يكون مصدر الإزعاج بنظر المذهب الرواقي  ليس الأشياء بحد ذاتها بل أحكامنا عنها هي ما يزعجنا. هنا يتقاطعُ سبينوزا مع حكمة رواقية عندما ينصحنا بعدم إطلاق الأحكام على ما نصادفه من الظواهر. 
كذلك يوافقُ صاحبُ "اللاهوت السياسي" سلفه الرواقي إيبكتيتوس في زهده الفلسفي مؤكداً أن "من يكون الأكثرُ تعلقاً  بكل ضروب الخرافة هم أولئك الذين يرغبون بكل جموح في الخيرات الخارجية" ويصبحُ الإنسانُ أكثر هدوءاً وحرية إذا لم يتبدل مزاجهُ حسب ما يطلقُ عليه الناس من الأحكام. ورد في المختصر "إذا أخبرت أن أحداً يتحدث عنك بالسوء فلا تدافع عن نفسك بل قل من الواضح أنَّه لا يعرفُ بقية عيوبي وإلا لتحدث عنها أيضاً". 
إذاً تنظمُ الفلسفة الرواقية شكل علاقتنا بالآخر إذ أنَّ ما يعجبنا ربما يرفضهُ المقابلُ، كما أنَّ البطولات والفضائل التي ننسبها لأنفسنا قد يثيرُ غيظ المستمع ويشعرُ بالملل لذا يقول إيبكتيتوس "لا تطل حديثك عن أفعالك ومغامراتك أمام أصدقائك". 
كان الفيلسوف إبيكتيتوس الذي عاش عبدا قبل انعتاقه قد اختار كلمة تفيد معنى "في متناول" أو "اليبد أو "الدليل" عنوانا لكتابه وذلك يؤشر إلى القيمة العملية لمحتوياته. يذكر أن  ماركوس أوريليوس يأتي في طليعة من أعجبوا بإيبكتيتوس، إذ يقولُ صاحب "التأملات" مستوحياً من فلسفة أستاذه روح الحكمة "كم تعجبتُ أنَّ كل إنسان يحب نفسه أكثر من أي شخص آخر، بينما يضع رأيه في نفسه موضعاً أدنى من رأي الآخرين فيه".