لماذا انتقلت العدوى إلى السودان؟

مشكلة المجلس العسكري الانتقالي حرجة مع بقايا نظام البشير.

الكتابة عن السودان غنية ومتشعبة، لكنها كانت مليئة بالمطبات السياسية الفترة الماضية، حيث تم التعامل مع ما يكتب في الصحافة المصرية على أنه تعبير عن مواقف رافضة أو مؤيدة لتوجهات الخرطوم أو المعارضة. وفئة كبيرة من الأصدقاء في السودان لديهم حساسية مفرطة، درجوا على تصنيف الكتابات على أنها مع أو ضد، وليس شيئا ثالثا يتعلق بالرصد والتحليل بحكم مقتضيات المهنة.

المواقف التي تعرضت لها شخصيا في هذا المجال كثيرة، جعلتني أصنف من قبل البعض أحيانا بأنني في خندق المعارضة السودانية، وفي نفس اللحظة مع الحكومة من جانب آخرين. وهي شهادة مرضية.

الأحداث التي يمر بها السودان تفرض تخطي الحسابات الضيقة والإمعان في ما يدور الآن، فقد ذهب النظام الذي أدخل هذه الفرية في نفوس بعض الدوائر الحزبية، ويوشك السودان أن يتعافى ويطوي واحدة من الصفحات الغامضة التي اعتمدت على تصدير الأزمات وليس مواجهتها، والبحث عن الفتن وليس اخمادها، ما جعلها تستفحل وتقود إلى انفجار الشارع.

السلاح الذي استخدمه نظام الخرطوم للدفاع عن وجوده وتحريض المواطنين على صرف الأنظار عن اللجوء للمظاهرات أثبت فشله، وخرج الناس في لحظة يأس، وأملوا إرادتهم دون التفات إلى المخاوف التي جرى غرسها بسبب المصير القاتم لمن أسقطوا حكامهم في كل من ليبيا وسوريا واليمن، وهي الموجة الأولى للانتفاضات التي نجت منها مصر وتونس بسلام.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ردد منذ اندلاع المظاهرات في 19 ديسمبر الماضي هذه النغمة، واتهم تلميحا وتصريحا جهات عدة بالتآمر عليه. مع ذلك أخفقت كل الحيل في أن تبقيه على عرشه وتمنع عنه العدوى التي أصابت دولا أخرى، لأن المهمشين أصبحوا وقودا للاحتجاجات، ولا زالوا يقاومون تطويقهم الناعم ويصرون على التخلص من روافد الحركة الإسلامية المهيمنة على قلب النظام.

العبر التي تقدمها الأحداث عديدة ولن تتوقف عند سقوط رئيس أو التخلص من حلقات قمعية واسعة، طالما توافرت لها عوامل تجبر الناس على عدم الالتزام بحلمهم وصبرهم على الأزمات. فلم يمنح نظام البشير على مدار ثلاثة عقود فرصة لمن اختلفوا معه للتعبير عن رأيهم، وأغلق الأبواب والنوافذ وقلص هامش الحريات وانتهك حقوق الإنسان وضرب عرض الحائط بقيم الدولة المدنية.

التجاوزات التي ارتبكها في إقليم دارفور أحدثت صداها لدى المجتمع الدولي، وقادته إلى المحكمة الجنائية. وهي معضلة تواجه المجلس العسكري الانتقالي والمشرفين على المظاهرات، ويشغلهم سؤال، هل تتم المحاكمة في الداخل أم في الخارج؟ ولذلك كان البشير حريصا في الأيام الأخيرة على اقتناص وعد بخروج آمن من السلطة، ومحاولة وضع ترتيبات تجنبه مواجهة إجابة سلبية لهذا السؤال.

الرجل أوجد طبقة كبيرة من المنتفعين كانت تطرب لما يردده في خطبه الجوفاء. وناور داخليا لإضعاف خصومه، ومنح الجماعات الإسلامية بأطيافها ملاذا آمنا لفترات طويلة، وتقلبت توجهاته بين الدول ما أفقده الكثير من الأصدقاء، وحرمه من تلقي مساعدات اقتصادية، منذ انطلاق شرارة الأزمة، كانت من الممكن أن تطيل فترة حكمه قليلا.

النظام السوداني تصور أن الحركة الإسلامية التي ينحدر منها أحكمت قبضتها على مؤسسات الدولة، فلم يعبأ بمقدمات التململ الاقتصادي والاجتماعي الذي ظهر على فترات متباعدة، وعاند الطبيعة وأوغل التكويش على السلطة، ونسي أن الضغوط يمكن أن تجلب العواصف في أي لحظة، ولم تعصمه طيبة وهدوء السودانيين من عدم انتقال الاحتجاجات العربية إليه.

القبضة الأمنية التي اعتمد عليها لم تكن كفيلة لذرع الخوف في نفوس المواطنين. والنماذج التي تحدث عنها، في ليبيا وسوريا واليمن، أعمته عن تجاهل الانتفاضات التاريخية للشعب السوداني، الذي كان في مقدمة شعوب ثارت على حكامها، وعلم الناس أن آخر الظلم ثورة.

البشير سقط مع أول عاصفة احتجاج منظمة اقتربت من قصره الرئاسي، لكن لم يسقط معه كل رموز نظامه. وهي المعركة التي يصر المتظاهرون على اجتثاثها من جذورها. ربما يكون من حسن حظهم أن تحركهم جاء عقب انتفاضات مختلفة مرت به بعض الدول العربية، ما مكن تجمع المهنيين وتحالف قوى الحرية والتغيير من تحاشي أخطاء الآخرين.

التحركات الجارية في السودان لن تتبلور معالمها النهائية سريعا، لأن الشكوك التي تنتاب المعتصمين أمام مقر وزارة الدفاع بالخرطوم مليئة بالهواجس، وتريد الحصول على ضمانات لتشكيل حكومة مدنية على مستوى المسئولية. كما أن الكلام الساكت لدى الأحزاب السياسية أكثر من الصياح والتهليل في الشارع، ويحتاج إلى رؤية شافية قبل أن تنفض المظاهرات.

مشكلة المجلس العسكري الانتقالي حرجة مع بقايا نظام البشير، والاستجابة لجميع مطالب المحتجين. وعليه أن يقوم بخطوات تضمن التخلص من إرث الأول، بكل ما يحمله من قيادات تجلس على قمة أجهزة ومؤسسات قامت على أكتاف الانتماءات العقائدية. وعليه أن يعزز مصداقيته لتهيئة البلاد لحياة مدنية حقيقية تبعد سيطرة الحركة الإسلامية على الدولة العميقة.

المفارقة أن إعلان المجلس العسكري عزل البشير وإقالة عدد من المسئولين، وكل التباديل والتوافيق السياسية، لم تثن إرادة المحتجين أو تجعلهم يتركون الشارع، فقد تولدت لديهم قناعة أن انصرافهم قبل تلبية أهدافهم من جانب مؤسسة حمل عدد كبير من قياداتها أفكارا أيديولوجية ربما يؤدي إلى عودة الجحيم السياسي.

لذلك يصمم المعتصمون على تنظيم أوراق المرحلة القادمة واستكمال الانتصار بتصفية رموز النظام السابق ومحاكمتهم قبل الذهاب إلى المنازل، ويدركون أن العودة للشارع مرة أخرى قد تحتاج وقتا طويلا، لأن الإرهاق الذي أصاب السودان لن يكون في صالحهم. وعليهم الاستفادة من الأجواء الإقليمية والدولية الداعمة للحلول السياسية وتشكيل حكومة مدنية.

من حسن حظ السودانيين أن اللغط الذي أثير في الموجة الأولى حول المؤامرات الخارجية تراجع مع الموجة الثانية. ومن حسن الحظ أيضا أنهم حرصوا على الاستفادة من دروس غيرهم، ما يجعل مهمة المجلس العسكري صعبة، ولن يتمكن بسهولة من دحرجة ما يريده للميدان بدون الحصول على موافقة صريحة من المعتصمين.