لماذا بوتين وليس جورج بوش

إن الزج بالعدالة الدولية في خانق ضيقة انما يُراد منه الاستخفاف بها ووضعها موضع سخرية.

بصدور قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتباره مجرم حرب يتأكد مرة أخرى ان مزاج العدالة الدولية صار أميركيا مئة في المئة. اليس الأولى بالجنائية الدولية أن تقاضي جورج بوش الابن وتوني بلير باعتبارهما مجرمي حرب لمناسبة الذكرى العشرين لغزوهما العراق الذي صارت ملفاته تكشف عن حجم الخراب والدمار اللذين أصيب بهما بلد بناء على اتهامات مزورة؟

تزامن قرار اعتقال بوتين مع ذكرى الغزو الأميركي ليكشف عن حجم الخلل الذي أصيبت به المؤسسات والمنظمات الدولية بسبب استفراد الولايات المتحدة بالعالم قطبا وحيدا يستند إلى قوته العسكرية من غير أن تكون هناك قواعد اخلاقية يتمكن من خلالها الآخرون من منعه من شن حروب عبثية، تدفع شعوب بريئة ثمنها.

لقد سبق لكولن باول وقد كان وزيرا لخارجية الولايات المتحدة أيام الغزو أن اعترف أنه كذب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن أسلحة الدمار الشامل التي قيل أن العراق يملكها.

وفي بريطانيا أدين توني بلير من قبل لجنة تابعة للبرلمان كونه كذب على الأمة وزج بالجيش البريطاني في حرب عدوانية لم تكن ضرورية لأمن بريطانيا ولا للأمن العالمي. كما أن جورج بوش نفسه كان يفاخر دائما بأن اسقاط نظام صدام حسين هو هدف يستحق قيام حرب. كل الوثائق التي يتم الكشف عنها تؤكد أن قرار الغزو كان مبيتا ومخططا له وما الأسباب المزورة التي تم تداولها إلا شعارات يعرف مروجوها أنها اشبه بالخرافات التي لن يصدقها أحد.

العراق الذي كان دولة قبل الغزو لم يعد كذلك بعده. اما شعبه الذي تعرض لمختلف ضروب القتل والتعذيب والتنكيل والاذلال والتجويع فقد تم تمزيق نسيجه الاجتماعي من خلال فرض نظام سياسي طائفي عليه صار يدير آلة الخراب بعد أن سحب الأميركان والبريطانيون جنودهم.

قال الرئيس بوش مبكرا "لقد انتهت المهمة" وهو يعني ما يقول. فالمهمة التي تم اسقاط نظام صدام حسين في أولها ستنتهي بمحو عوامل استعادة العراق لوجوده أي قدرته على أن يكون دولة مرة أخرى. سيكون دولة افتراضية على الورق، لا يتعرف شعبه عليها.

كل ما حدث للعراق لم يكن منظورا بالنسبة للجنائية الدولية. لقد ارتكبت جيوش الولايات المتحدة وبريطانيا والدول المتحالفة معها خارج إطار الشرعية الدولية جرائم ضد الإنسانية، كل واحدة منها تفوق ببشاعتها ما ارتكبه الجيش الروسي في أوكرانيا. وليست المقاربة هنا صحيحة. غير أن ردود الأفعال في الحالين تفضح مستوى التدني الأخلاقي الذي وصل إليه المجتمع الدولي.

فالحرب في أوكرانيا لها ما يبررها من خلاف بين دولتين كانتا يوما دولة واحدة. اما الغزو الأميركي البريطاني فليس هناك ما يبرره سوى الرغبة في تدمير دولة واسقاط نظام سياسي واخراج شعب من التاريخ.

وإذا كنا نوافق جدلا على أن يكون بوتين مجرم حرب، ترى لمَ لا يكون زيلينسكي رئيس أوكرانيا كذلك؟ زيلينسكي هو الآخر داعية حرب. كان كذلك حين هدد روسيا بصواريخ حلف الأطلسي الناتو.

ولكن قبل بوتين وزيلينسكي ألم يكن بوش الابن وبلير مجرمي حرب يوم دمرا دولة مستقلة فقدت سيادتها بسبب غزوهما وصارت ملعبا للتنظيمات الارهابية ومن ثم تمكنت منها الميليشيات التابعة لإيران؟

لقد تحركت الجنائية الدولية بناء على أوامر أميركية مبتذلة لم تراع كون بوتين رئيس دولة عظمى وهي دولة نووية فمَن يجرؤ على سبيل المثال على اعتقاله؟

إن الزج بالعدالة الدولية في خانق ضيقة انما يُراد منه الاستخفاف بها ووضعها موضع سخرية.

صحيح أن الامر لا يتجاوز المنحى الرمزي غير أنها إشارة يُراد منها تضليل العدالة أو على الأقل استضعافها. فحين يفلت جورج بوش وتوني بلير من مساءلة المجتمع الدولي ويتم تسليط الضوء على بوتين، كونه عدوا للولايات المتحدة فإن ذلك النوع من العدالة سيكون مشكوكا فيه. عدالة بعين واحدة وبميزان لا يمكن الثقة به.

ليس من المستبعد هنا أن تكون الولايات المتحدة وهي تعرف أن القرار غير قابل للتنفيذ قد قصدت من ورائه أن تكشف علنا عن تابعية الجنائية الدولية لها بالرغم من أنها لم توقع على نظامها في روما وقد سبق لها وأن فرضت عقوبات على كبار موظفيها.

التهمت حرب أوكرانيا بنيرانها القرار الأوروبي المستقل وها هي تلتهم العدالة الدولية.