لماذا شكّلت الصحوة الإيرانية كابوسًا للخليج؟!

عمل النظام الإيراني على تأسيس ودعم الميليشيات المتطرّفة بدايةً من حزب الله اللبناني ثم حزب الله في الحجاز وحزب الله في البحرين إلى ميليشيات الزينبيّون والفاطميّون والحشد الشعبي في العراق وجيش الشيعة العالمي.

بقلم: محمد بن صقر السلمي

حتى نتعرَّف على تأثير الثورة الإيرانية على المنطقة العربية بشكل عامّ، ومنطقة الخليج العربي على وجه الخصوص، علينا بدايةً العودة قليلًا إلى الوراء لاستعراض طبيعة العَلاقات بين إيران وجيرانها العرب قبل الثورة، وتحديدًا خلال الفترة الثانية من الدولة البهلوية، حيث حصلت بعض دول الخليج على استقلالها من الإمبراطورية البريطانية. لم تكن العَلاقات وردية كما يسعى البعض لتصويرها، ولكنها لم تكن غاية في السوداوية. كان فيها تنافس سياسيّ وقوميّ، وكانت فيها خلافات عدّة، مثل الخلاف على عروبة البحرين، والجُزر الإماراتية الثلاث، والعَلاقة مع إسرائيل، وبخاصة في بعض مراحل فترة الحروب بين العرب وإسرائيل، إلا أن جميع تلك الخلافات كانت تأتي حلولها عبر القنوات السياسية والدبلوماسية المباشرة، وظلَّت في إطارها السياسي بعيدًا عن أيّ عوامل أخرى.

بعد انتصار الثورة في إيران ووصول رجال الدين إلى السلطة هناك، وعلى الرغم من التفاؤل العربي بوصول نظام سياسيّ يوطد العَلاقات الإسلامية، لا سيّما في ظِلّ الشعارات التي ظَلّ يردّدها النظام السياسي الحاكم في إيران، فَهِمَ العرب خلال أقلّ من سنتين أنّ التفاؤل لم يكن في محلّه، وأنّ التوجُّهات الإيرانية الجديدة في المنطقة أكبر خطورة على الأمن القومي العربي من السابق، وأنّ عاملًا جديدًا قد أثارته إيران وعملت على استغلاله وهو العامل الطائفي الشيعي. فقبل الثورة لم يكن المحدّد المذهبي مؤثرًا في العَلاقات الاجتماعية في المجتمعات الخليجية المختلطة مذهبيًّا، ولم يكن هناك عَلاقات عابرة للحدود على أساسٍ مذهبيّ، وكل ذلك حصل بعد الثورة الإيرانية. أما حاليًّا فنجد أنّ الصراعات المذهبية والاحتقان الطائفي هو العنوان في كثير من المجتمعات المختلطة، وبخاصّة تلك الدول التي تعاني من حالة عدم الاستقرار، مثل العراق وسوريا وغيرهما.

المستجدّ الثاني في المنطقة بعد الثورة الإيرانية هو صعود موجة ما يسمّى «الإسلام السياسي» واستغلال الدين لخدمة المشاريع والطموحات السياسية. فإذا كانت الطبقة الجديدة الحاكمة في إيران، وبخاصة رموزها العُليا، قد تأثرت بشكل كبير بحركة الإخوان المسلمين في مصر، وعملت عبر عقود على مدّ الجسور مع تلك الحركة وروّجت لأدبياتها بين الإيرانيين عبر حركة الترجمة واستعارة كثير من الشعارات السياسية، فإنّ أنصار الإسلام السياسي في الدول العربية قد أصابتهم الغيرة من نُظرائهم في إيران، الذين وصلوا إلى رأس هرم السلطة، وعملوا على مشروع مماثل في الداخل العربي لتغيير الأنظمة السياسية في المنطقة، وتأسيس أنظمة جديدة تتناغم مع الثورة الإيرانية، وتركّز أيضًا في خطابها الإعلامي على مناهضة الإمبريالية العالمية والعداء للغرب، بهدف استمالة العامّة والشباب المتحمّس في ظلّ شعور إسلاميّ بالهزيمة وتعطُّش للانتصارات، حتى وإن كانت وهمية وخطابية فقط.

هذا الطموح السياسي الثوري أطلق شرارة عديد من الظواهر في المجتمعات العربية، وكان أولها محاولة مجموعة متطرّفة ذات دوافع سياسية ومزاعم دينية، منها ظهور المهديّ الغائب، السيطرة على الحرم المكيّ في نهاية عام 1979، بزعامة شخص مغمور يُدعى جُيَهْمان العُتَيْبي. إنّ الرابط بين هذه الحادثة والمستجدّات في إيران هو النزعة السياسية المدفوعة آيديولوجيًّا من خلال استثمار العواطف الدينية لخدمة مشاريع سياسية بحتة.

المستجدّ الثالث في المنطقة بعد الثورة الإيرانية هو ظاهرة الإرهاب وتشكيل الخلايا الإرهابية وما يعرف بالفاعلين من غير الدول. فمنذ بداية ثمانينيات القرن الماضي عمل النظام الإيراني على تأسيس ودعم الميليشيات المتطرّفة، بدايةً من حزب الله اللبناني، ثم حزب الله في الحجاز، وحزب الله في البحرين، إلى ميليشيات «الزينبيّون» و«الفاطميّون» والحشد الشعبي في العراق وجيش الشيعة العالمي. في التقرير الصادر عن دائرة الشرق الأدنى في وكالة «سي آي إيه» في أكتوبر 1979، وقد استعرضت قبل سنوات صحيفة «الشرق الأوسط» أجزاء منه على عدة حلقات، أكّد محلّلو الوكالة أنّ إيران تعمل على توظيف الأقلّيات الشيعية في البلدان العربية ذات الأغلبية السُّنية لخدمة الخطط الإيرانية الساعية إلى زعزعة أمن واستقرار دول الجوار، وقد ركّزت إيران جهودها بدايةً على الأقلّيات الشيعية في البحرين والكويت بهدف تغيير الأنظمة السياسية هناك.

إنّ ظاهرة تشكيل مثل هذه التنظيمات المسلّحة أثّرت بشكل كبير على بعض شباب الدول العربية، فالتحق كثيرون منهم بتنظيمات مختلفة خلال مرحلة ما يُعرف بـ«الصحوة»، أو ما تسمّيها إيران حتى الآن «الصحوة الإسلامية» وتمجِّد لها. صحيح أنّ الحرب في أفغانستان قد أسهمت في ظهور ذلك بطبيعة الحال، لكن جذور هذا التوجه والحماس الديني غير المنضبط مرتبطة بالثورة الإيرانية وجماعة الإخوان المسلمين تحت مظلّة الإسلام السياسي.

لا يزال النظام الإيراني يستخدم أدوات مختلفة لتصدير الثورة وإنجاح المشروع الإيراني، الذي يستخدم في حقيقته البُعد الطائفي الشيعي، إلا أن محرِّكه الأساسي هو البُعد القومي الفارسي في مقابل العرب، من خلال استدعاء التاريخ والجغرافيا وتشويه صورة الآخر العربي أمام المجتمع الإيراني، وتكريس الصور الذهنية السلبية، مع عدم إغفال سردية الإمبراطوريات الفارسية، بهدف الحصول على دعم شعبيّ داخليّ للمشاريع الإيرانية الخارجية، وقد نجحت إيران في ذلك نسبيًّا.

نٌشر في المعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة