لماذا فشل المشروع النهضوي العربي؟

لا تكتفي مجتمعاتنا بتفريخ آلاف الأحزاب اعتباطية الفكر، بل لديها القدرة على استنباط أشكال مبتكرة من الفساد.

بات هذا السؤال يصيب المرء بالغثيان حين يشاهده، لأنه مكرر وعنوان لأكثر من آلاف المقالات والأبحاث والدراسات والبرامج وكأنه معضلة ليس لها حل على مرأى ومسمع من الدول التي تجاوزت هذه المرحلة وتفرغت للبناء والتنمية والوصفة سهلة وسريعة وهي حكم القانون ومراقبة السلطة التنفيذية لرصد حالات الفساد والنهب وعدم تقديس الحاكم والمسؤولين والخوف منهم ومحاسبتهم على كل دولار أو جنيه أو غيرها وسمو الدستور وعدم العبث به. وحين يناقش الخبراء هذا الأمر يقولون "إن مجتمعنا له خصوصية." أي خصوصية أيها الخبير؟ إذا كان مجتمعكم له خصوصية، فلماذا يهرب الشباب بالملايين من هذا المجتمع الذي له "خصوصية"؟

لقد تركت الشعوب المتقدمة الأديان وجعلتها مسألة شخصية يقررها الفرد ولا علاقة لها بنظام الإدارة، وأصبح لديها تجانس فكري وثقافي، وسيادة الدستور وتطبيق القانون بالمساواة، وما الأحزاب التي نراها سوى أحزاب مشتركة ومتفقة على المبادئ وبينها اختلافات حول الإجراءات لا أكثر ولا أقل. فالولايات المتحدة لديها حزبان رئيسان هما الديمقراطي والجمهوري، والفرق بينهما هو أن الحزب الجمهوري يتسم بالاهتمام بالوضع الاقتصادي والديني في حين يهتم الديمقراطيون أكثر بشؤون العمال والمزارعين وذوي الدخل المنخفض. ويؤيد الحزب الديمقراطي حرية الإجهاض بينما يسعى الحزب الجمهوري إلى تعديل يحظر الإجهاض، ويتشابه موقف الحزبين فيما يتعلق بمرض الإيدز حيث يعد الحزبان بدعم الأبحاث للقضاء على المرض، ولكن موقفهما مختلف فيما يتعلق بالجريمة حيث يدعو الديمقراطيون إلى المساعدة الفيدرالية للحكومات المحلية فيما يؤيد الجمهوريون العمل بعقوبة الإعدام. ويعارض الديمقراطيون انتشار المخدرات بينما يدعو الجمهوريون إلى استخدام القوة العسكرية لمكافحة المخدرات. وهناك فرق كذلك في الموقف من الإسكان فالديمقراطيون يؤيدون بناء المساكن بدعم حكومي فيما يرفض الجمهوريون ذلك. وهناك فرق في الموقف من الضرائب إذ يؤيد الديمقراطيون فرض الضرائب على الأثرياء بينما يرفض الجمهوريون ذلك. وهذه اختلافات اجرائية وليست جوهرية.

في البلدان العربية، تختلف الأحزاب التي يبلغ عددها مئات الأحزاب اختلافا جوهريا، فهناك من يريد تحويل الدولة إلى دولة دينية وهناك من يريدها شيوعية وهناك من يريدها رأسمالية والوضع على ما هو منذ مئات السنين، بلاد تفتقر إلى الحريات العامة وتعاني من الفقر والفساد وتصفق للحكام وتتوارى خلف الأديان إذا كانت في موقف ضعف، ولا يوجد تجانس فكري وثقافي، والدستور يتغير بمرسوم ملكي أو رئاسي. وبناء على ذلك، لا يجوز إطلاق صفة دول على البلدان العربية لأنها تفتقر إلى مقومات الدول العالمية.

لا يمكن لدولة أن تبدأ من الصفر في مسألة إدارة الدولة، والشعوب تستفيد من التجارب والخبرات السابقة للدول الأخرى، وليس هناك مبرر لإضاعة الوقت والجهد في التجريب، فقد اتفقت الشعوب على العلمانية والحكم المؤسسي منذ زمن بعيد، فلماذا كل هذا البحث والتداول والجدال؟

حتى هذا اليوم، لا زلنا نسمع أن المسؤول الفلاني أخذ ملايين أو مليارات ولا أحد يحرك ساكنا، وهذا أحد الأخبار من فلسطين: "وقال المنسّق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف، في تغريدة على تويتر، إنه ’في الوقت الذي يعاني فيه الشعب الفلسطيني من مصاعب اقتصادية ويتم قطع الرواتب في غزة، تبدو مثل هذه القرارات تحديا للمنطق وتثير غضب الناس بحق‘. وأشار إلى أن رئيس الوزراء الفلسطيني، وعده بإنهاء هذه الممارسة على الفور والتحقيق في الموضوع. وبقي قرار زيادة الرواتب طي الكتمان، إلى أن كشفت أمره مجموعة إلكترونية مجهولة تطلق على نفسها اسم ’عكس التيار‘. تفيد الوثائق التي نشرها الموقع، بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أصدر قرارا بزيادة راتب الوزير من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف دولار وراتب رئيس الوزراء من أربعة آلاف إلى ستة آلاف دولار."

هذا ليس فسادا، بل جريمة كاملة الأركان ويجب محاكمة ومعاقبة من ارتكبها، هذا مع العلم أنه انتشرت من قبل أخبار عن سرقات أخرى وميراث يقدر بالمليارات ولزم الجميع جانب الصمت، ما الفرق إذن بين العرب والفلسطينيين؟ الفرق الوحيد هو أن الفلسطينيين يخوضون حربا مع إسرائيل ولو قدر الله لهم تحرير فلسطين بالكامل، لأصبحوا أسوأ دولة عربية ينتشر فيها النهب والفساد والأعناق المنحنية أمام المسؤول.

ومن المضحكات المبكيات هو أن يأتي رجل متحمس ويقول يجب تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد ثبت بالأدلة القاطعة أن الشريعة الإسلامية ليست سوى ستار يتستر خلفه الفاسدون والمنافقون وآكلو مال السحت والمنشغلون بفتاوى الحيض وإطلاق الريح.

ليس هناك حل أمام الشعوب المتخلفة سوى أن تتحد وتتفق على ثقافة واحدة ترسي دعائم الحكم المؤسسي وتطبيق القانون على الجميع بالتساوي وعدم المساس بالدستور ومراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها، وليس هناك وصفة سحرية أخرى.