لماذا لا ننتج نقدا سينمائيًّا جيِّدا؟

العمل السينمائي العربي يستحق وجود نقد جديّ وعالي الجودة ليحاول إنقاذ مساره وإرشاده إلى الطريق الصحيح، وعدم انتاج مادة نقدية جيدة يعود الى اسباب عديدة من بينها التقصير في الوعي بفكرة النقد نفسها وعيوب في أخلاقيات العمل النقدي وعدم وضوح هدف النقد الأصيل.

علَّة أساسيَّة من علل تدهور أيّ نقد هو تدهور مستوى العمل المَنقُود. فعندما يتدهور النقد الأدبيّ فهو نتيجة لتدهور العمل الأدبيّ نفسه، وعندما يتراجع النقد الفكريّ فهذا يكون مؤشرًا لتراجع الأعمال الفكريَّة والفلسفيَّة في أيَّة أمَّة. ليس التراجع في "كم" الأعمال، بل في "كيف" الأعمال ومدى جديَّتها وتجديدها وثرائها.
فإنّ للعمل النقديّ -عمومًا- ارتباطًا وثيقًا بما ينصبُّ عليه النقد، أيًّا ما كان مجال النقد. وبالتبعيَّة، فإنَّ تدهور النقد السينمائيّ العربيّ نتيجة لتدهور الإنتاج السينمائيّ بالعموم من جهة، ومن أخرى لتدهور حال الوعي العام، وتدهور مستويات القراءة والمتابعة من الجمهور. هذا الجمهور الذي إنْ حرص على متابعة فيلم، فإنَّه لا يكون حريصًا على متابعة النقد المكتوب عنه، ولا على إيجاد تلك الأضواء الكاشفة على ما رأى وسمع في العمل الفنيّ. فضلًا عن أنَّه ليس مُقبلًا -بالقدر الكافي- على عمليات الوعي مثل قراءة الكتب.
وهنا يبرز سؤالانِ:
هل يستحقُّ العمل السينمائيّ العربيّ وجود نقد جديّ؟
وهل هناك مستوى نقديّ عربيّ مرتفع؟
الإجابة عن السؤال الأوَّل بالإيجاب قطعًا. نعم يستحق العمل السينمائيّ العربيّ وجود نقد جديّ وعالي الجودة، لا لأنَّه مثل النقد، بل ليحاول النقدُ إنقاذ المسار السينمائيّ، وتقويم سلوكه، وإرشاده إلى الطريق الصحيح من ناحية، ومن أخرى يُمارس عمله الأساس تُجاه القارئ ليُعرِّي أمامه العمل الزائف، ليُطلعه على النماذج الجيِّدة التي تجعله "مُشاهدًا" مُميِّزًا، لا قابلًا. فنحن هنا كمثل مقارنة لاحتياج الشخص السليم والشخص المريض للطبيب، أيُّهما أشدّ احتياجًا؟! بالقطع المريض هو المحتاج إلى طبيب يطبِّبه، ويدله على المسار الصحيّ الذي يجب أن يكون عليه. ليصير أداة نفع، لا أداة إضرار وتهديم.
وإذا كانت الإجابة عن السؤال الأول بالإيجاب، فهل الجواب عن السؤال الثاني بالإيجاب أيضًا. في نظري: لا .. لا يتمتع العرب بنقد سينمائيّ عالي الجودة، ولا حتى بنقد سينمائيّ كافٍ على مستوى الكمّ.لكنْ لماذا لا نتمتع بمستوى مرتفع من النقد؟!
قبل الإجابة عن هذا السؤال سنحصر المادة النقديَّة من حيث الوسيط. وهي إمَّا:
1-    نقد سينمائيّ مقروء: سواء يُكتب في الصحف الورقيَّة أو الإلكترونيَّة، أو على المواقع السينمائيَّة، أو في كتب مخصوصة له.
2-    نقد سينمائيّ مُشاهَد: ويكاد يقتصر هذا النوع على تلك الحلقات التي يطرحها البعض على منصّة "اليوتيوب". بعد تجاهل ضخم من إعلام الدولة والإعلام الخاص للنقد السينمائيّ، وبتره تمامًا من على خريطة البرامج. إلا من فقرات نادرة يُستضاف فيها ناقد بعينه، أو قلة نادرة ليتحدث فيما لا يتعدى ربع الساعة.
والآن سأحاول تحديد إجابة عن السؤال المطروح: لماذا لا ننتج نقدًا سينمائيًّا جيِّدًا؟ لا أقصد هنا "الكلَّ" بالقطع، بل المقصود هو "الكثرة"، وتقدير القارئ الكريم لوجهة النظر هنا ينبغي أنْ يمتاز بالنسبيَّة لا الإطلاق في الحُكم. ولأنَّ السؤال سؤال ضخم لا يمكن الإجابة عنه في مقال، أو من خلال محور واحد، سأقنع هنا بعض وجوه إجرائيَّة من مُشكلة النقد، دون الوجوه الأقرب للفلسفيَّة أو المنطقيَّة (قضيَّة هُوِّيَّة النقد السينمائيّ العربيّ، قضيَّة امتلاك العرب لنقد نابع عنهم، منهج النقد الكُلِّيّ،....). وستكون الإجابة عنه على المحاور الآتية في اختصار بالغ.
أولاً: عيوب تأهيل للقائم بالنقد (الناقد):
من هذه العيوب ما يأتي:
1- التقصير في الوعي بكامل مُفردات (عناصر) العمل الفنيّ السينمائيّ. ففئة غير قليلة من النقاد العرب لا يتطرَّقون من العمل الفنيّ إلا إلى عنصر القصة في الفيلم فقط، أو القصة والفكرة -إنْ استطاع إدراكها-، أو قد يخترع من عنده معاني ليست موجودة ليكمل بها السياق! وللأسف نرى هذا.
2-  التقصير في الوعي بفكرة النقد نفسها، ومعناها. للدرجة التي يتحوَّل بها النقد إلى قصائد من الثناء، أو قصائد من الهجاء والشتم. وكذلك قلّة الوعي بالمذاهب الأدبيَّة علمًا بأنّ الفنّ السينمائيّ أسير لمذاهب الأدب، وهذا حال الفنّ الناشئ (السينما) من الفن الأبديّ (صنوف الأدب جميعه). ولهذا يخطئ الكثير من النقاد في تصنيف العمل، ورؤية حقيقيَّة لمضامينه.
3- بعض الجهل بفنيَّات الكتابة، وباللغة العربيَّة. ولا أبتغي هنا ولا أطلب من الناقد أن يكون "توفيق الحكيم" في الأسلوب، ولا "العقاد" في جودة اللغة وإتقانها. بل أوضِّح أنَّ العمل النقديّ هو في الأصل عمل كتابيّ يقتضي المعرفة بمبادئ الفنّ الكتابيّ. والكتابة ليست بالعمل الهيِّن الذي يمارسه الإنسان وقتما شاء، بل هي عمل شاقّ يحتاج إلى استعداد ضخم، وجهود مضنية حتى تكون الكتابة مستقيمة. وبالقطع فإنّ الكتابة في أيَّة لغة لا تصلح أبدًا إلا بمعرفة قواعد الكتابة في اللغة، ومعرفة قواعد اللغة. وإذا سألتَ فلانًا من النقاد أن يكتب مقالًا بالإنكليزيَّة -مثلًا- فسيفزع كل الفزع. لسبب بسيط هو أنه لا يعرف قواعد تلك اللغة، ولا يدري كمًّا مناسبًا من المفردات يسمح له بالكتابة فيها. فلِمَ لا يطبِّق هذا في لغته؟! .. وبالقطع فإن أدنى مطالعة لما يُكتَب في الوسط النقديّ تدلّك كم هي مقصرة في أقلّ فنيات الكتابة بل مفهومها، فضلًا عن المستوى بالغ الرداءة للغة العربيَّة وقواعدها.
ثانيًا: عيوب في أخلاقيَّات العمل النقديّ:
1- التهاوُن في الأمانة: وأبرز ما في هذا السياق هو عمليات السرقة الواسعة من المحتوى الأجنبيّ الغربيّ. ويكاد -أقول ويكاد- يكون كلُّ الناقدين الظاهرين على منصة "يوتيوب" سارقين علنًا من المحتوى النقديّ الغربيّ المُقدَّم على "يوتيوب" أيضًا. ثم يظهرون عليك وكأنهم أصحاب هذه الأفكار، أو هذه الترتيبات، أو حتى الفنيَّات. وبالقطع أيّ راءٍ للمحتوى الأجنبيّ الغربيّ سيرى المدى البالغ للسرقة من المحتوى الأجنبيّ. وللأسف المُتلقِّي العربيّ يطلع، وقد يُعجَب بهذا وهو غير عالم أنَّ ما يشاهده جميعًا مسروق من الآخرين. وكذا في النقد الكتابيّ لكن قد يبدو أقلَّ قدرًا من ناقدِيْ المنصّة.
2- بعض مظاهر استغلال النقد في أهداف أخرى مثل التسلُّق الاجتماعيّ أو الكسب الماديّ. بهدم شخصيات وتجارب أو إعطائها حقًّا ليس لها. وهذا كثير خاصةً في النقد الصحفيّ.
ثالثًا: عيوب في عمليَّة النقد نفسها:
1- عدم وضوح هدف النقد الأصيل، وهو إنماء وعي المُشاهِد، وصقل ذائقتِهِ الجَماليَّة. فهذا هو الهدف الأصيل من أيَّة عمليَّة نقديَّة. وهناك أهداف أخرى مثل زيادة الحصيلة المعرفيَّة للمُشاهِد.
2- الإسراف في النقد الانطباعيّ. والأصل أنَّ الانطباعيَّة ليست عيبًا بل هي مذهب. لكن هنا نتحدث عن عمليَّة نقد تقوم على التعويل على التأثُّر المُباشروالذائقة الشخصيَّة، على حساب الفنّ النقديّ وقواعده، والغرض الأصيل منه. وعمليَّة النقد الانطباعيّ هذه من أكثر ما نراه في الوسط النقديّ العربيّ.
3- الأثر السيِّء للنقد الصحفيّ: ويكاد يكون غالبُ المحتوى النقديّ العربيّ صحفيَّ الطابع والروح. وأصل هذه المسألة ارتباط -أو اشتباه- العمل النقديّ لعُقُود بالصحافة والصحفيين. والصحفيون لهم طريقة في التحرير معروفة -إنْ كنتَ لا تعرفها فطالِع غالب المحتوى النقديّ- صارت هذه الطريقة عَلَمًا على النقد السينمائيّ في أذهان الكثير من القارئين. ونشأت الأجيال الجديدة من النقَّاد، فلمْ تجد سواها حتى توهَّمتْ أنَّ هذا هو النقد. والنقد الصحفيّ بعيد إلى حد كبير عن معايير النقد التي تقرِّبه إلى العلميَّة وتُكسبه صفتَيْ الاتفاقيَّة والموثوقيَّة. وتقوم في الغالب على حكاية العمل على طوال المقال، وإدراج تعليقات بين الفواصل وكأنَّك تشاهد مباراةً وتستمع إلى المُعلِّق الرياضيّ، ثُمَّ ينصب الحديث على المُمثِّلين، أو المخرج -إنْ كان مشهورًا أو كان ذا صلة بجهة الكتابة إيجابًا أو سلبًا-. وقد يجد الكاتب في المقال فسحةً لمْ تُملأ بعدُ فيكتب عن الفكرة من وراء العمل -إنْ تمكَّن من الوصول إليها-.
هذه هي أصول النقد الصحفيّ وهذه لا تفيد القارئ في شيء، بل تصنع له وعيًا زائفًا. ولا أقصد بالقطع هنا "الكلَّ"، بل الكثير الظاهر الذي يُطالعه القرَّاءُ، أو يُطالع هو القرَّاءَ كلَّ يوم. وإلَّا فالصحافة الجيِّدة الأمينة في عملها لا تقترب لما وصفتُ ببداهة التصوُّر. كما أنَّ الصحافة بيتٌ أصيل للنقد الجادّ في كلّ صنوفه، وهي بما تمتاز به وسيلة ناجعة في التطوُّر
والأمر يطول ولا يستطيع مقال واحد احتواءه. الأهمّ أن نعرف جديَّة أمر "النقد"، ودوره في تشكيل وعي القارئ والمشاهد. ونعمل على إصلاحه مُخلصين.