لماذا يدعم البنك الدولي الديكتاتوريات؟

هل تصح معونة حكومة أوصلت البلاد إلى الفقر بحجة محاربة الفقر؟

إن رسالة مجموعة صندوق النقد الدولي، التي ينبثق منها البنك الدولي، تتضمن هدفان رئيسيان، هما:

  1. إنهاء الفقر المدقع من خلال خفض نسبة السكان على مستوى العالم الذين يعيشون في فقر مدقع إلى 3% في عام 2030.
  2. تعزيز الرخاء المشترك، من خلال رفع مستويات الدخل لأفقر 40% من السكان في كل بلد.

تلك المجموعة، هي أحد أكبر مصادر التمويل والمعرفة للبلدان النامية في العالم، يجمعها التزام بالحد من الفقر، وزيادة الرخاء المشترك، وتشجيع التنمية المستدامة، وتتألف من خمس مؤسسات دولية، هي: البنك الدولي للإنشاء والتعمير، المؤسسة الدولية للتنمية، مؤسسة التمويل الدولية، الوكالة الدولية لضمان الاستثمار، المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.

ما يعنيني في هذا التكوين للمجموعة، كونها جميعها دولية، هو أنها بالتأكيد نشأت وتشكلت وفقاً للمعايير الدولية، والمفترض أن عملها وتعاملاتها مع الآخرين يتماشى مع هكذا معايير ويلتزم بها، حتى يكون ذلك متطابقاً مع أنظمتها الدستورية والإدارية والمالية.

ومن هذا المنطلق، يفترض في البنك الدولي حين يتصدى لمشكلة الفقر، ويجعلها من أولوياته، أن يولي عناية كبيرة ومتعمقة لدراسة الأسباب التي أدت إلى أن أصبح شعباً من شعوب المعمورة موسوماً بالفقر المدقع، فظاهرة الفقر لا تأتي من فراغ، إنما لها مسبباتها، فالفقر المدقع نتيجة وليس قدراً.

على المستوى الفردي، ما الذي يجعل شخصاً طبيعياً لديه الموارد المادية وكل مقومات العيش الكريم، يصبح فقيراً؟ الإجابة على الفور ودون عناء تفكير ستكون سوء التصرف في الموارد، أي الفشل في إدارة موارده، أو إتباع أسلوب فاسد وغير رشيد، فتكون النتيجة فقدانها في فترة زمنية وجيزة، الأمر الذي يجعله فقيراً من منظور النتيجة النهائية.

الدول ليست ببعيدة عن هذا التبسيط، فلكل دولة مواردها، ونقاط قوتها التي تؤهلها للانخراط في المجتمع الدولي كمساهم في اقتصاده بما يعود على شعبها بالرخاء الذي يبعده عن شبهة الفقر، فما بالنا بالمدقع، ويتوقف هذا على طريقة إدارة الدولة.

ولقد مرت البشرية بالعديد من التجارب الإدارية التي مثلتها أنظمة حكم مختلفة، خلصت إلى تأسس نظامين سياسيين هما الملكي والجمهوري.

وكما يعلم البنك الدولي، فإن الدول المتقدمة، والمكتفية ذاتياً، والبعيدة عن مؤشرات الفقر، هي التي تُدار من خلال الحكم الرشيد، على عكس الدول الغارقة في الفقر المدقع، فكيف هو هذا الحكم الرشيد؟

سواءً كانت الدولة ملكية أو جمهورية، فإن أهم معيار للحكم الرشيد هو النزاهة والشفافية واحترام القانون، ولتحقيق ذلك ظهرت نظرية الديمقراطية، فالديمقراطية تعني هي حكم الشعب، فهي شكل من أشكال الحكم يشارك فيه جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة في إنشاء السلطة ومراقبتها ومحاسبتها، وهي الطريقة التي اتفقت عليها الشعوب التي انعتقت من الفقر، لتسيير وإدارة الدولة، فعن طريق آلياتها يتم تداول السلطة واختيار من يتولى إدارة الدولة، وبنفس الآليات يتم اختيار نواب عن الشعب لمراقبة الإدارة، وبالآليات نفسها تتولى السلطات القضائية تطبيق القانون على الجميع بلا استثناءات أو تحيزات، وذلك كله في إطار دستور الدولة الدائم دوام الزمن، الذي يحدد نظام الحكم، وينظم كل مكوناتها من حدود بحرية وبرية، وموارد وإمكانيات، وعلاقات مع الدول الأخرى، ويوضح حقوق وواجبات الجميع على قدم المساواة.

فالديمقراطية والحال هكذا أصبحت وسيلة ضرورية لتقدم أي دولة وإبعاد شعبها عن الفقر المدقع، فكلما كانت الإدارة رشيدة ونزيهة، وكلما أمكن محاسبة الحكام وتحميلهم نتيجة أخطائهم، كلما ساد الرخاء أو على أقل تقدير عاش الناس بكرامة بعيداً عن الحاجة والعوز.

نخلص من ذلك لنتيجة وحيدة، وهي أن الذي أوصل الشعوب لدرجة الفقر المدقع، خصوصاً تلك التي لديها من الموارد الطبيعية والبشرية ما يجنبها هذا المصير، هو النظام الذي يحكمها، تلك بديهة من المسلمات، فالديكتاتوريات العسكرية لم ينتج عنها أي خير يُذكر عبر التاريخ القديم والحديث.

فحين تتقدم إحدى الدول الديكتاتورية للبنك الدولي بطلب القروض وهي لا تطبق المعايير الدولية في الحكم والإدارة، فلماذا لم يسأل خبراء البنك الدولي أنفسهم هذا السؤال: إذا كان نظام تلك الدولة هو الذي أوصلها إلى ما هي فيه، فهل يستطيع هو ذاته إذا حصل على المال أن يغير من واقعها؟ هل فاتهم ما قاله آينشتاين من أن المشاكل الموجودة في عالم اليوم لا يمكن للعقول التي أوجدتها أن تحلها؟

إن آليات عمل البنك الدولي مع الدول الديكتاتورية المقترضة لا تُلقي بالاً للفساد وسوء الإدارة، وإن فعلت فتكتفي بالحصول على بعض البيانات المضللة والأرقام الكاذبة التي تستوفي بها متطلبات إدارية ورقية فقط، ويسعدها أن يصدر الديكتاتور هذا أو ذاك، قراراً بإنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد، وخبراء البنك الدولي يعلمون علم اليقين أن الفساد منشئه وأساسه غياب الحكم الرشيد ودولة القانون، وأن تركيز البنك الدولي على إصلاح الهياكل الاقتصادية والموازنة العامة للدولة سيؤدي بالضرورة إلى إلغاء دعم الطبقات الفقيرة وزيادة الضرائب وتعدد أشكالها، بما يعني أن الشعب هو الذي يتحمل أعباءً إضافية وهو الملتصق بالفقر المدقع أصلاً، فيزداد الأثرياء ثراءً، والفقراء فقراً.

جميع تجارب البنك الدولي كانت مع الدول الديكتاتورية بدءاً من أميركا اللاتينية انتهاءً بالمنطقة العربية، ولم يثبت أن نصائح البنك وخططه الموجهة ضد الشعوب قد حققت أدنى نجاح، بل على العكس هناك دول قاربت على الإفلاس بعد تطبيق إجراءات البنك الدولي وازدادت شعوبها فقراً، ولم ينتشلها من هذه الفاجعة إلا بانتهاء حقبة الحكم العسكري، وفرض الحكم الرشيد، بوصول رؤساء مدنيين يتسمون بالنزاهة للحكم، لا ينكر أحد أن هؤلاء الرؤساء الجُدد لم يتمكنوا بسهولة من انتشال شعبهم من الفقر إلا أنهم يسيرون في الطريق الصحيح وأصبح لدى شعوبهم أملاً في الوصول إلى حياة كريمة.

خلاصة القول، إن البنك الدولي حين يمد يد العون لنُظم يعلم يقيناً أنها ديكتاتورية، محكومة شعوبها بالحديد والنار، فإنه بذلك يخالف القواعد التي أسس البنك عليها بنيانه، فالأموال تُهدر في غير مصلحة الهدف المنشود وهو انشال الناس من الفقر المدقع، وكل ما تجنيه شعوب الدول المقترضة من البنك الدولي مزيداً من الديون الخارجية، بشهادة يمنحها البنك للديكتاتور بأن دولته مؤهلة للمزيد من الاقتراض، فيا لها من نتيجة مخزية لسياسات البنك ومجموعته.

لو ان البنك الدولي يعمل حقاً لصالح الشعوب، لاشترط على الدول الديكتاتورية المقترضة قبل يمنحها الأموال، أن تغير نظامها السياسي وفقاً للمعايير الدولية، ليضمن فعلاً أن الأموال التي سيقدمها ستؤدي إلى خفض نسبة الفقر المدقع، وزيادة الرخاء المشترك، بدلاً من إعلان الحرب على الفقراء.