المقاول الفنان هل هو حالة أم دلالة؟

فيديوهات محمد علي حالة من التشويش والصراخ والعويل من الجهات الرسمية والخاصة. هل هذا الاسلوب الأمثل لمواجهة مثل هذه الظواهر.

مُنذ ما يُقارب الشهرين، تلقف رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر والعالم العربي مقاطع فيديو بثها مقاول وفنان مصري اسمه محمد علي، تناول فيها مشكلة مادية خاصة بشركة المقاولات التي يملكها، مع أحد قطاعات الجيش المصري، شارحاً بالتفصيل كيفية إدارة هذا القطاع، مُلقياً الضوء على قيام شركته بالأمر المباشر، بإنشاء قصور ومبانٍ متعددة خاصة بالرئيس وبعض قيادات الجيش، بتكلفة مالية كبيرة.

ذاع صيت هذه المقاطع وانتشرت محلياً، قبل أن تنتقل إلى العالمية، خصوصاً بعدما خرج الرئيس في أحد لقاءته مع الشباب، ولم ينكر بناء القصور معللا الاستمرار في بنائها أنها ليست باسمه بل لمصر. وباستمرار محمد علي في نشر المزيد من المعلومات يومياً، كان المواطنون قد استشاطوا غضباً في الوقت الذي ساءت فيه أحوالهم جراء تحملهم التبعات الاجتماعية الصعبة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي لن ينجح مطلقاً إلا إذا كان بالتوازي مع عملية جادة للإصلاح السياسي، فالسياسة والاقتصاد معاً هما جناحا تقدم الدول.

ما لبثت الفيديوهات أن غزت أوروبا وأميركا، وتناقلتها الصحف والبرامج التلفزيونية، بصورة يومية، وتطور الأمر إلى استضافة صاحبها في قنوات فضائية بريطانية وصحف ومجلات إسبانية وفرنسية وأميركية، إضافة إلى عقده مؤخراً مؤتمراً صحفياً في لندن أعلن فيه نيته عن اتصالات يجريها لتوحيد المعارضة بكل أطيافها توطئة لتشكيل حكومة ظل من الكفاءات المصرية في الخارج.

في يوم 20 سبتمبر 2019، وبعد أقل من أسبوع من بث المقاول الفنان المزيد من مقاطع الفيديو التي يخاطب فيها الشعب، ويعقد فيها المقارنات مع الشعوب الأوروبية وما تنعم به من حياة كريمة بسبب أنظمتهم السياسية الديمقراطية، خرج المصريون بصورة غير متوقعة إلى الميادين في مختلف محافظات مصر معربين عن الغضب والسخط ضد الرئيس منادين برحيله، في حالة فريدة من تحدي الإجراءات الأمنية الصارمة المفروضة على التظاهر بصفة عامة، والمعارضة جميعاً بصفة خاصة.

أحدثت المفاجأة شللا في جميع أجهزة الدولة الرسمية والأمنية والإعلامية. وبعد استيعابها، تم تسخير الإعلام بكل أنواعه، والممثلين بكل تخصصاتهم، والراقصات بكل أردافهن، لمجابهة محمد علي كلُ على شاكلته الخاصة خصوصاً إحدى الراقصات التي خلعت برقع الحياء على الهواء.

وبغض النظر عما جاء في فيديوهات محمد علي، فإن حالة التشويش والصراخ والعويل التي قوبلت بها من الجهات الرسمية والخاصة، دون مناقشة الوقائع ومدى صدقها، توسعت للدرجة التي أقترح فيها أحد الإعلاميين من ناقصي المهنية، إيقاع غرامة تصل لمليون جنيه على كل من يقوم بالتجاوب مع الفيديوهات بإعادة نشرها، مع إن ذلك تدخلا سافراً في إصدار القوانين واقتراحها، وإهانة بالغة لدستور الدولة، لكنه حدث.

كما قامت أجهزة الأمن بحملات عصبية، طالت الجميع، تمكنت بها من السيطرة على الأمور، إلا أن استخدام الخشونة والتوسع في الاعتقالات، جلبا استهجاناً شديداً من منظمات دولية وأثر على سجل مصر الخاص بحقوق الإنسان، وخصوصاً عند مناقشة هذا السجل مؤخراً باللجنة الأممية المختصة بذلك.

ما يبدو فوق السطح أن الأجهزة الأمنية انتصرت، ولكن ما سيسفر عنه هذا الانتصار الباهظ التكلفة من نتائج فتلك رواية أخرى، لا يعلمها أحد ولا تستطيع تلك الأجهزة أن تتوقع أين ومتى، ولذلك ستظل طوال الوقت متحسبة لها، وهذا في حد ذاته يُلقي عليها عبئاً بدنياً ومادياً ثقيلاً، خصماً من أي برامج تنموية، وهو الوضع الذي لا يُمكن له الاستمرار إلى ما لا نهاية، وإلا بدت الدولة كمن تُحارب طواحين الهواء، وتقدم الدول وازدهارها يحتاج إلى بيئة طبيعية وجو من الهدوء العام. ولكن للأسف ما نراه هو معركة مفتوحة لا نهاية لها إلا بغياب مسبباتها، فمن غير المعقول أن نستمر في ترديد شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة التي لا تنتهي.

وعودة إلى المقاول الفنان، وما إذا كان ظهوره ما هو إلا حالة عابرة ستمر كما مرت كثيراً من الحالات المشابهة، أم أنه دلالة على أن المقدمات دائماً تؤدي إلى النتائج والنهايات؟ في اعتقادي كمواطن لا دور له إلا المراقبة والتعبير عن الرأي، أرى أن محمد علي حالة ودلالة معاً.

فمحمد علي حالة ستظل قائمة ومتجددة، طالما بقيت أسبابها، ولن يقتصر تأثيرها على ما أحدثته من زعزعة للثقة فحسب وتبصير الناس بواقعهم الحقيقي فقط، بل هي كالزلزال، والزلازل لا تكتفي بما تحدثه من خلخلة للأرض وإحداث أضرار متعددة بها، إنما تظل توابعها متتالية ومؤثرة حتى وإن خفت حدتها، وتوقف التوابع وحلول السكون لا يعني نهاية الزلزال، فمسبباته تنتقل من زلزال إلى آخر، ويضرب في موقع جديد.

كما أن محمد علي دلالة أيضاً، شديدة الوضوح على خطأ الرهان على فرض الأمر الواقع بالقوة، اعتماداً على صبر الشعب على المعاناة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خصوصاً إذا ما تحول الأمر إلى إهانة الكرامة الإنسانية، فتلك هي القشة التي ستقصم ظهر البعير، فالاعتماد على مقولة اضرب المربوط يخاف السائب إن صلحت في وقت فلن تصلح في كل الأوقات، وإن بدى أنها تؤتي ثمارها، فتلك ثمار مؤقتة لا يُمكن لعاقل أن يعتمد عليها لمواجهة أكثر من مائة مليون إنسان، لكلٍ منهم طموحاته وآماله، وأسرته وكيانه.

والخلاصة هي: على العقلاء أخذ الأمور بجدية وتبصر، وإذا ما أرادوا الخير لهذا الوطن فعليهم أن يعملوا على التخلص من الظروف التي خلقت المسببات، بدلاً من هدر الوقت والجهد والمال في محاصرة الحالات والعصف بالدلالات، فالحالات لن تنتهي، والدلالات لن تختفي قبل أن يُصاب السجان بالملل والجلاد بالكلل.