لماذا يعود العرب الى الدكتاتورية؟

في مطلع العصر الاسلامي، كانت مشكلة تغول الموظف العام والفساد منتشرة. أصوات التاريخ تذكرنا بما نراه اليوم.
هل يذكَّر موقف عمرو بن الأحمر الباهلي قبل 13 قرنا بوضع حالي؟
نهضت الدول الأوروبية حين قطعت الصلة بينها وبين ماضي الحروب

قال ابن خلدون في مقدمته " الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون الا على البسائط وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم لأنهم لا يتسنمون إليهم الهضاب ولا يركبون الصعاب ولا يحاولون الخطر وأما البسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدولة فهي نهب لهم وطعمة لآكلهم يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم ثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم والله قادر على خلقه وهو الواحد القهار لا رب غيره الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلة".

إنه قول يحز القلب حزا، فالعرق دساس وما باليد حيلة لتغيير هذه الثقافة التي لا زالت موجودة لدينا، فالتغيير الثقافي يكون بتغيير النظام الفكري بمجمله وتفاصيله، وعندما قطعت الدول الأوروبية الصلة بينها وبين ماضيها، نهضت، لأنها وضعت قيما جديدة اتفق عليها الجميع، مما سهل إبرام اتفاقية شنغن في عام 1985 وتطبيقها في عام 1995، ذلك أن جميع الدول الأوروبية تحمل نفس القيم ولا يوجد مخاطر تتعلق بنشر الفوضى أو العمليات الإرهابية، في حين تشدد الدول الأوروبية على منح التأشيرات للدول الاسلامية لأنها تعرضت الى عواقب وخيمة عدة مرات، وهي تفترض أن الخطر موجود دائما فالكل متهم حتى تثبت براءته، لأن الأقوام تحمل أفكارا خاصة بها فإذا كانت الأفكار تتعارض مع القيم الأوروبية، فإن خطر الفوضى موجود دائما. وعندما تعود أنظمة الحكم الى الدكتاتورية، فإنما تفعل ذلك صونا للبلاد من أعدائها الداخليين قبل الخارجيين، فالعرب يحملون قيما مختلفة ويسعون الى فرضها بأي أسلوب، وكل واحد منهم يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، وعليه واجب فرضها على الجميع، وليس من قبيل المبالغة القول أن جميع مشاكل العرب سببها داخلي وليس خارجيا، فإذا اتهم قائد بأنه دكتاتوري، فمرد ذلك هو إما أن يكون دكتاتورا أو تخرب البلاد.

في مطلع العصر الاسلامي، كانت مشكلة تغول الموظف العام والفساد منتشرة، فانشد عمرو بن الأحمر الباهلي وهو شاعر مخضرم ولد ونشأ في نجد، أدرك الإسلام وأسلم وشارك في الفتوحات ويروى أنه شارك في الفتوحات مع خالد بن الوليد وكذلك في مغازي الروم، ثم أنشد قصيدة يشكو فيها الى يحيى بن الحكم بن العاص سنة 75 هـ مما يفعله مستخدموه من جامعي الزكاة فهم يضربون القوم حتى يأخذوا إبلهم ويقول في الأبيات التالية أن قومه بشر وليسوا أموات مثل قوم عاد ولا هم أهل الكتاب لكي يدفعوا الجزية، ويخبره أن قومه رعاة الإبل وليس لهم مصدر رزق آخر غير الإبل كالمزارع والبيوع:

مَلّوا البِلادَ وَمَلَّتهُم وَأَحرَقَهُم   ***            ظُلمُ السَعادَةِ وَبادَ الماءُ وَالشَجَرُ

إِن لا تُدارِكهُمُ تُصبِح مَنازِلُهُم     ***         قَفراً تَبيضُ عَلى أَرجائِها الحُمرُ

أَدرِك نِساءً وَشيباً لا قَرارَ لَهُم  ***            إِن لَم يَكُن لَكَ فيما قَد لَقَوا غِيَرُ

إِنَّ العِيابَ الَّتي يُخفونَ مَشرَجَةٌ     ***         فيها البَيانُ وَيُلوى دونَكَ الخَبَرُ

ويصف حال قومه بأنهم ضجروا من هذه البلاد وأحرقهم الظلم وانعدم الماء والشجر وفقدوا الرجاء إلا من الخليفة وإليه يفرون ويفزعون، النساء والشيوخ الكبار المستضعفين، وأن بؤسهم بائن وواضح ولا يخفى على أحد مهما حاولوا تغطيته. ويشبه الحال بمن يحاول تغطية العيوب بالثوب من خلال رتقه.

فَاِبعَث إِلَيهِم فَحاسِبهُم مَحاسَبَةً  ***            لا تَخَف عَين عَلى عَينٍ وَلا أَثَرُ

وَلا تَقولَنَّ زَهواً ما تُخَيِّرُني  ***             لَم يَترُكِ الشَيبُ لي زَهواً وَلا العَوَرُ

سائِلهُمُ حَيثُ يُبدي اللَهُ عَورَتَهُم   ***          هَل في صُدورِهِم مِن ظُلمِنا وَحَرُ

ثم يطلب منه أن ينجد قومه من ظلم الجباة وإذا لم ينجدهم يحيى فسوف يموتون وتصبح ديارهم خرابا وأعشاشا للطير ويدعوه لمحاسبتهم علانية ودون استتار ويختم قصيدته بالإيعاز للحاكم أن يسألهم هل يكرهون قومه أو في صدورهم غل عليهم.

هل يذكَّر موقف عمرو بن الأحمر الباهلي قبل 13 قرنا بوضع حالي؟ بلى، إن الوضع لا يزال كما كان قبل 13 قرنا، وكلما حاول أحدهم تقويم الاعوجاج، وجد أنه يستحلب ضرعا جف عرقها، ويدرك أن قدر العرب هو أن يعيشوا في فوضى حتى يأتي رجل ذو شكيمة قوية ورباطة جأش، ويهز لهم العصا فيمتثلون الى القانون.

إن الديمقراطية لها متطلبات سابقة أولها الايمان بالمساواة والعدل والحرية، تطبيقا لا قولا، فإذا آمن الجميع بهذه القيم، باتت الديمقراطية قابلة للتطبيق دون أن يسيء أحد استخدامها فيجلب الفوضى والخراب على البلاد.