لن نسلّم لبنان

مبررات الوجود يتهاوى واحدها تلو الآخر مع إقدام أخصام "لبنان الدور" على ضربها بشكل منهجي، وسط انهزامية المؤتمنين على لبنان أكانوا في الشرعية أو في الشارع.
لبنان أصغر من أن يتحمل صراعات المنطقة والعالم
الدولة اللبنانية فقدت صدقيتها رغم شرعيتها

كان المجتمع الدولي (العربي ضمنا) يعتبر أنظمة المنطقة تؤدي وظيفة، ولبنان يؤدي دورا. الوظيفة عقد مهمة محدود في الزمان والمكان. الدور رسالة متجددة في خدمة الحضارة والسلام والإنسانية. كلما كان نظام عربي ينهي مهمته الوظيفية كان يسقط كالعصفور ولو النسر شعاره. وكلما كان لبنان يقوم بدور كان وجوده يتعزز. الخشية اليوم أن يتنازل لبنان عن "الدور" ويختار "الوظيفة"، فيسقط. الصراع الحقيقي في البلاد يدور بين جماعة لبنانية متعددة الطوائف تحرص على لبنان الدور، وجماعة لبنانية أخرى، متعددة الطوائف أيضا، تخلع على لبنان وظيفة على مستوى مشروعها لأنها لم تستطع أن تسمو إلى مستوى دور لبنان التاريخي.

تسعى هذه الجماعة إلى تحويل الدولة نظاما وتوظيفه أجيرا لدى أنظمة المنطقة وثوراتها وصراعاتها ومشاريعها التوسعية. هذا التحول، عدا أنه يقسم الشعب والبلد، يفقد لبنان مبرر وجوده الوحدوي المميز. ومتى فقدت دولة مبرر وجودها لا يعود أصدقاؤها يدافعون عن بقائها، ويستغنى عنها في أول مناسبة. والخشية الأخرى ألا ينتهي هذا الصراع سياسيا لأن جميع المساعي السياسية، منذ التسعينات الماضية، باءت بالفشل ودفعت لبنان نحو الانهيار.

لبنان تجاوز جميع حروبه وأزماته السابقة لأن العالم اعتبر دوره الحضاري حاجة في منطقة الشرق الأوسط لعدة أسباب أبرزها: 1) تأمين ملاذ وطني آمن وحر للمسيحيين اللبنانيين ليظلوا رعاة الوجود المسيحي الباقي في الشرق وباعثي معنوياته، وهذا هو معنى مارونية رئيس الجمهورية. 2) اختبار تجربة التعايش بين الإسلام والمسيحية على أرض الواقع في إطار دولة واحدة ومجتمع واحد. 3) الارتكاز على نظامه الديمقراطي لتعميم الديمقراطية على دول الشرق الأوسط. 4) الاستعانة بطاقاته ومؤسساته الفكرية والتعليمية لتكوين نخب العالم العربي. 5) الاعتماد على نظامه الاقتصادي النيو ـــ ليبرالي ومؤسساته المصرفية في مواجهة الأنظمة الاشتراكية والعقائد الشمولية التي سبق أن سادت غالبية دول العالم العربي.

الأسباب الخمسة ـــ أي مبررات الوجود ـــ يتهاوى واحدها تلو الآخر مع إقدام أخصام "لبنان الدور" على ضربها بشكل منهجي، وسط انهزامية المؤتمنين على لبنان أكانوا في الشرعية أو في الشارع. أنشئ لبنان للتعايش، فأين التعايش؟ أنشئ للديمقراطية، فأين الديمقراطية؟ أنشئ لريادة المسيحيين، فأين ريادة المسيحيين؟ أنشئ للحياد، فأين الحياد؟ أنشئ للبحبوحة، فأين البحبوحة؟ أنشئ للرقي والثقافة والحضارة، فأيـننا منها؟ تكاثرت الأحداث السيئة، وهي من علامات الزمان، تدعونا إلى اليقظة والاستنفار وتغيير الأداء. تجاهلنا جميع المؤشرات: لـم نسمع صفارات الإنذار. لم نشاهد الغيوم تتلبد. لم نشم رائحة البارود. لم نذق الخبز اليابس. لم نتذكر مآتم الشهداء. لم نر البدر يمسي هلالا ولا الشمس تتقمص سيفا حارقا. صخب الحياة السياسية والاجتماعية حجب الرؤية.

ما إن تهاوت أدوار لبنان، حتى راحت الدول الأجنبية تتعامل مع اللبنانيين بمنأى عن الدولة: المساعدات تأتي إلى الجمعيات مباشرة. لقاح الكورونا إلى الجامعات والجيش. الاستثمارات ـــ إن أتت ـــ تراقبها الدول المانحة. الموفدون يفاوضون ممثلي الأحزاب والطوائف والمجتمع المدني. والسفراء خففوا زياراتهم الرسميين. حين ترفض دول أجنبية التعامل مع الدولة اللبنانية، يعني أن الدولة فقدت صدقيتها رغم شرعيتها، ويعني تاليا أن شرعية الدولة غير كافية لبقاء أركان الطبقة السياسية في قيادة الدولة. ويعني استطرادا أن تغيير هؤلاء يغني عن تغيير الدولة. واللبنانيون أصلا أمام خيار تغيير بنية الحكام أو بنية الدولة.

لبنان، الدولة الصغيرة، يحتوي في بنيته مكونات إمبراطورية كبرى، ويشبه تحديدا النمسا بين 1870 و1914: إمبراطورية مترامية الأطراف ضمت مجموعات عرقية ودينية وحضارية مختلفة (الجرمانية، الـمجرية، الصربية، الكرواتية، السلوفاكية، الروثنية، البولونية، الإيطالية، إلخ...)، وضبطتها عصورا في إطار نظام قوي. لكن ما إن ضعف الحكم المركزي في فيينا منتصف القرن التاسع عشر، حتى بدأت كل مجموعة تطالب بالاعتراف بخصوصيتها الذاتية في إطار الإمبراطورية. تجاوب الإمبراطور فرنسوا-جوزيف مع غالبية المطالب عله ينقذ وحدة البلاد، فطمعت المكونات في تنازلات الإمبراطور وصارت تطالب بالانفصال عن الإمبراطورية. ظل الصراع الكياني قائما إلى أن سقطت الإمبراطورية النمساوية في الحرب العالمية الأولى؛ فتوزعت القوميات في كيانات صغيرة، واكتفت النمسا بدولة حيادية صغيرة يحدها بيتهوڤن شمالا، وموزار جنوبا، وهايدن شرقا، وشتراوس غربا.

إذا كان لبنان أصغر من أن يقسم، ونحن ضد تقسيمه كبيرا كان أو صغيرا، فهو أيضا أصغر من أن يتحمل صراعات المنطقة والعالم. والطريف أن من يجاهدون اليوم لتقسيمه وهو موحد، يتهمون بالتقسيم من وحدوه حين كان مقسما. إن الجماعة اللبنانية الحضارية، وإن كانت ترفض العيش في ظل واقع لبنان الحالي المتخلف، الـمنحط، الـمحتجب، الـمعسكر، الـمتسول، الـمعاقب، المعزول، الـمشوه، والفاقد الدور، فهي لن تسلم لبنان 1920 إلى طالبي صلبه. هذه الجماعة، المتعددة الطوائف، ستسترجع لبنان وتزيل آثار التشويه عن جبهته وهويته وتسفر عن وجهه.

في مثل الحالة اللبنانية، حري بنا أن نستنهض روح الأمة وعزة الوطن وعصب الصمود، وأن نوقف نهج التنازل اللامتناهي منذ الثمانينات إلى اليوم. حري بنا أن نستعيد زمن المقاومة وننفض الغبار عن القضية اللبنانية التي بذل أطراف جهدا لحجبها وأرشفتها. حري بنا أن ندفع لبنان إلى الاستقالة من "الوظيفة" فيتربع على عرش "الدور". نناشد من بعد في الدولة يذكرون زمن المجد، أن ينتفضوا على سجانيهم وينقذوا لبنان من خلال مؤسسات الشرعية، وفي طليعتها الجيش اللبناني.

إن حتمية التاريخ تضع لبنان أمام خيارات إنقاذ ثلاثة: 1) إنقاذ من خلال حوار سياسي يحسم نهائيا موضوع وحدة لبنان المركزية، وهذا مدار تـمن. 2) إنقاذ من خلال الجيش اللبناني يحسم وحدة السلاح، وهذا مدار نقاش. 3) إنقاذ من خلال الشعب الذي قد يحول الثورة مقاومة، وهذا مدار بحث. حينئذ، يحلو الحديث عن... شعب وجيش ومقاومة.